أعادت حرب غزة الأخيرة مقولات الحرب والسلام إلى الواجهة بعد أن ظن كثير من الناس أن تلك الأحاديث قد ولت إلى غير رجعة مع خطاب الخمسينيات والستينيات، خاصة مع هبوب رياح السلام على المنطقة منذ حرب السبعينيات. ولأن الحرب الأخيرة بين حماس وإسرائيل فسيكون بطبعه حديثا عن حماس وعن أسئلة المقاومة التي تطرحها حماس وصناديدها، وتبحث في سبب إقدام حماس على ما فعلت، وهل كان لها الحق في أن تفعل ذلك كما ستتساءل عن مقدار الخطأ والصواب في فعل حماس، وهل ينبغي ألا نحمل الإخوة الفلسطينيين مسؤولية خطأ حماس فلا نتركهم هدفا للجنود الإسرائيليين بغض النظر عن السبب. وسيأتي السؤال بعد ذلك عن الفائدة التي جنتها حماس من الحرب أو غزة، أو الشعب الفلسطيني أو العرب جميعا.
الأمر السيئ في هذا الحديث أننا سننقسم إلى قسمين: إما مع المقاومة أو ضدها، وسيبدو الذين مع المقاومة وكأنهم أكثر صلابة يدافعون عن الحق والشرف العربيين في حين سيبدو الذين في الجانب الآخر وكأنهم فرطوا في هذه القيم كلها. في هذه المعادلة سينسى تأريخ كل طرف وما فعله لأجل الحق العربي والوجود العربي، ولم شمل العرب. وسينسى من الذي فرط في ذلك، ولماذا وصلنا نحن العرب إلى هذه الحالة. ستناقش القضية وكأنها حدثت اليوم أو أمس بعيدا عن كل الملابسات والظروف والأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحالة المتردية. ستذهب حماس ومن يؤيدها مع الذين يرفعون حناجرهم فقط بالحديث عن بطولات حماس وعن المقاومة والشرف السليب دون النظر إلى ما وراء هذا الموقف والثمن الذي سيقبضونه والذي تدفعه حماس من حيث لا تشعر.
هذا التناول والنقاش لهذه القضية الشائكة يجعل الحديث عنها نوعا مما يسمى بالعنتريات الجوفاء والشعارات واستثارة مشاعر الجماهير، لأنه لا يسعى إلى المعالجة الحقيقية للقضية، لا ينظر في أسبابها ومسبباتها، ولا يحاول أن يكشف ما وراء الظواهر. إنه يسعى لحشد الجماهير والتعبئة النفسية لهذه القضية أو تلك دون أن ينظر في توجيه القضية أو الموضوع المطروح توجيها كليا يتناسب مع الإستراتيجية المستقبلية للوطن العربي المبنية على الحسابات التاريخية والمصيرية للوجود العربي. في هذا الطرح يتساوى من يتربص الدوائر بالأمة العربية، بالجزء منها، يتساوى الذي لا يفكر إلا في نفسه ووجوده مع الذي يحاول أن يحمي أمته وشعبه ولو قدم بعض التنازلات الوقتية، يتساوى من يملك الخبرة الطويلة المتراكمة في التعامل مع الآخر في حديثي التجربة المتأرجح بين العمالة و العداوة.
حين نعود للأسئلة السابقة التي طرحت عن حماس سنواجه بسؤال مفصلي: هل كانت حماس تقاوم؟ أم كانت معتدية أطلقت بعض الصواريخ على عدد من المنازل التي ربما تكون خالية من السكان؟ بمعنى هل كانت حماس تدفع هجوم الإسرائيليين الأخير أم كانت هي السبب وراءه حيث أطلقت صواريخ وإسرائيل تدافع عن نفسها، سيقول الذين يدافعون عن حماس بأن إسرائيل لا تحتاج مبررا للهجوم، وإذا كان في هذا اعتراف ضمني بأن صواريخ حماس كانت السبب المباشر فقد وجدته هذه المرة بصواريخ القسام. ثم سيأتي السؤال الآخر لماذا أطلقت حماس تلك الصواريخ، ولماذا لم تلتزم بالتهدئة، لماذا لم تكن مسئولة عن الوطن وفعلتها وحماية الناس فيه؟ يجادل هؤلاء بأن حماس قد وصلت عن طريق صناديق الاقتراع وأنها السلطة الشرعية ولكنهم ينسون أن هذا لا يعطيها الحق باتخاذ قرار الحرب وحدها، وأن السلطة الشرعية ينبغي أن تدافع عن شعبها لا أن تتدرع بهم (تتخذهم دروعا).
لن أعيد طرح الأقوال بأن حماس خرجت من الحرب لم يمسسها سوء، وأن هذه الجماعة التي أثارت المعركة لم تدفع الثمن وإنما دفعه الضعفاء من الناس والكبار والأطفال: وهنا يأتي السؤال ألا يستحق هؤلاء الضعفاء أن توقف الحرب لأجلهم، أن نمتنع عن الحرب حفاظا على سلامتهم، الأمر الذي يجعل حماس شريكة فيما حدث في غزة. وهو ما يدفع إلى التساؤل عن حقيقة ما يدور في أذهان المسئولين في حماس حين كانوا يخرقون كل محاولات التهدئة، ويتخذون قرار الحرب وحدهم، ويرتبطون بالقوى التي تعلن المناهضة لأمريكا؟ أكانوا يظنون أنهم سيقهرون الجيش الإسرائيلي؟ أم كانوا يظنون أنهم سيجرون العرب والمنطقة لحرب غير مدروسة؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل فكر الإخوة في حماس من الذي سيستفيد من هذه الحرب؟ ومن المستفيد من عدم الاستقرار بالمنطقة ومن إفساد المؤسسات العربية وإعاقة مسيرة البناء التي ربما تكون بطيئة؟ الجواب على هذه الأسئلة يكشف أن الإخوة في حماس لم يكونوا مستعدين لهذه الأسئلة، وكأن ما قاموا به نوع من الضربة غير المدروسة لاستفزاز الكيان الإسرائيلي أو هي رغبة في الوقوف في صف المعارضة و تحديد الموقف ومنافسة المحاولات الأخرى لاستفزاز الشعور الإسرائيلي ومن ثم كسب التعاطف مع الشعب العربي، وإذا كان ذلك في موقف بعض الجماعات التي لا تتسم بقبول في الشارع العربي نظراً لالتزاماتها غير العربية فإن الموقف ليس بهذه الصورة بالنسبة لحماس التي تلقى قبولا في الشارع العربي حتى الآن باعتبارها حركة سنية عنيت بتعليم الناس الخير والحدب على الفقراء وليست مليشيا تستمد قوتها من قمع الضعفاء والتحكم في أرزاقهم.
ما المكاسب التي كانت حماس ترغب في أن تحققها من هذه التصرفات؟ فهي لا تستطيع أن تحل القضية وحدها، ولا تستطيع أن تقهر الإسرائيليين وحدها وهي تعلم ذلك وتعلم أيضا أن لا أحد يريد أن يدخل في حرب لم يتخذ قرارها، ومن خلال حربهم لم يجنوا شيئا، ألم تكن نتيجة الحرب معلومة سلفا؟ الاحتمالات الممكنة محصورة، أقصى ما يمكن أن يصل إليه هو أن المقاومة لم يقض عليها. وماذا يمكن أن تفعل المقاومة أصلا؟ مقولة الشيخ أحمد ياسين (توازن الرعب) تكشف إستراتيجية المقاومة الفلسطينية لدى حركة حماس التي ليس فيها الأمل في الانتصار أو في إزالة الاحتلال بمعنى هناك إمكانيات لكل طرف، هذه الإمكانيات تحدد سلفا المحتملات، هذه الاحتمالات ليس منها تحرير الأرض وإخراج المحتل.
وبناء عليه يبدو أن سؤال النصر، والنتيجة والغاية من هذا الموقف لم يطرح أساساً لدى المسئولين في حركة حماس، وأن القضية لا تكاد تكون مواقف من الحرب والسلم قد سويت سلفاً بناء على مواقف (فكرية أيديولوجية) وليست ذات صلة بحقيقة العلاقة مع إسرائيل ولا ما يحدث على الأرض. على أن القول بأن (المقاومة لم يقض عليها) يوحي بحصر المقاومة العربية بالمقاومة الفلسطينية أو حتى فصل المقاومة الفلسطينية عن المقاومة العربية، وهي مسألة تحتاج تأمل، فالمقاومة العربية ليست محصورة بالمقاومة الفلسطينية والمقاومة أيضا ليست مقصورة على المواجهة المسلحة والذي يقاوم ليس فقط إسرائيل.
اللافت للنظر هو تداخل صورة حماس في الشارع الفلسطيني، بمعنى فقدان الممثل الحقيقي للإنسان الفلسطيني، فعزمي بشارة يتحدث في (بيان غزة) عن الهجوم على غزة مستبعدا الحديث عن حماس ولا يكاد يذكرها، جاعلا الموقف بين ثلاثة أطراف (الشعب الفلسطيني، العرب، إسرائيل) وهو ما يجعل حماسا جزءا من الشعب الفلسطيني أولا، ويتناسى ثانيا الموقف الذي اتخذته حماس بعيدا عما يمكن أن أسميه بالإجماع العربي، والحجة التي يتمسك بها (بشارة) هي أن هذا (الاستحقاق) ولا أدري هل هو الهجوم الإسرائيلي أو صواريخ حماس، كان سيقع اليوم أو غدا من خلال عدة معطيات - من وجهة نظره- تتمثل في: حصار السلطة المنتخبة، عدم منحها فرصة، تجويع الشعب الفلسطيني.
إضافة إلى ذلك، أن الحديث عن الانتخاب والشرعية الفلسطينية يجر في الوقت نفسه إلى الحديث عن (الشرعية العربية) والمؤسسة العربية أجمع، فلا يمكن لمن يدعي أنه يمثل جزءا من الشعب العربي من خلال أصواتهم أن يمارس خرقا للشرعية العربية والإجماع العربي الذي يحتج به أو القرار العربي بالأغلبية ويمارس (سلوك القيان) على حد تعبير أبي عثمان الجاحظ في كتاب القيان فتجدهم مرة بالقاهرة وأخرى بطهران يعلنون التهدءة هنا والحرب هناك يتحدثون باسم الشعب هنا واسم المقاومة هناك.
الرياض