من ذكريات الصحافة في القرن الماضي..
لا أدري كيف قفز إلى ذهني هذا العنوان يوم تحدّث معي المهندس عبد المحسن الماضي، وطلب مني المشاركة والحديث عن صحافة القرن الماضي...
رَجِعت بي السنين واستدارت الأيام وراجعت الأعوام، كنت أقلّب ذات يوم كراتين فيها كتب قديمة ومجلات اصطفيتها وعزلتها لأراجع فيها بعض الموضوعات، وكنت قد اتخذت مستودعاً في منزلي بضاحية الهدا بمحافظة الطائف أفرُّ أحياناً إلى هناك، أعتصم عن الضوضاء، ألوذ بهدوء البلدة وصمتها الشتوي كما يتحصّن الرهبان في الصوامع والبيَع، أقول اتخذت هذا المنزل مستراحاً للروح، ومراجعة للنفس، وتقليباً في كتب وقراطيس ... وفجأة !! ظهرت لي – بل – أطلّت عليّ أعداد قديمة من مجلة (راية الإسلام) التي كانت تصدر في القرن الماضي بحي دخنة بالرياض، ذلك الحي الذي كان مستقراً لبيوت كثير من علماء آل الشيخ وطلاّبهم، أصدر المجلة منشئها ومؤسّسها سماحة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ – رحمة الله عليه.
كنت أقيم في حي الملز القريب من شارع الأحساء، يقابل دارنا منزل المرحوم الشيخ محمد بن سدحان، كان ابنه عبد الرحمن – الأمين العام لمجلس الوزراء الآن - يختلف إلى حيّ دخنة، يمدُّ مجلة (راية الإسلام) بشيء من إنتاجه، كنت ألتقي به وأسعى معه، نركب سيارات الأجرة من الملز إلى حي البطحاء ثمّ إلى دخنة، نسلّم مقالاتنا لرئيس تحرير المجلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان (رئيس مجلس القضاء الأعلى سابقاً) ومعاونه الشيخ علي بن حمد الصالحي – رحمه الله – كنا نلبس المشالح والغتر الحمراء بلا عقال - لكن بعقل والحمد لله .. -، كانت الحياة بمدينة الرياض في تلك السنين يسراً لا عسراً، وهدوءاً لا صخباً، وراحة لا نصب فيها ولا لغوب...
كنت قد مارست الكتابة قبلها في صحيفة ( الندوة)، يوم كانت صحافة الأفراد قبل عهد المؤسسات، وصاحبها الأستاذ صالح محمد جمال وأخوه أحمد – رحمهما الله – يشجّعان الشباب، كان كل مقال يُنشر لي يزيدني إعجاباً بنفسي، وثقة بحسّي وحدسي، فأشتري أكثر من عدد، أسير في الشارع معتقداً أنّ كلّ من يمشي فيه قد قرأ ما كتبت، وأنّه يعرفني !! وأحسب هذه خواطر ومشاعر يمرّ بها كلّ مبتدئ وحديث عهد بالكتابة والنشر .
كنت كغيري أنخدع بما أسمع من أنّ كبار الأدباء والكُتّاب يحبّون الصراحة، ويشجّعون مخالفة الرأي، كما يطالبون في مقالاتهم، ولما تقدّمتُ في الكتابة والسنّ، وخالطتهم عن قرب أدركت حجم الخديعة والفجيعة ومساحة الزّيف والحَيف، وكيف أنّ ما يُكتب بالصحف ويُقال في المجالس عكس الحقيقة و ضدّ ما يصرحون به علناً!!
بل بعضهم يرى أنّ من حقِّه أن ينتقد الأجهزة الحكومية، والدوائر الرسمية، والجالسين على الكراسي، لكن إذا فكرت أو جرّبت أن تنتقد مقالاً له أو جادلته في بعض ما كتب، انقلب وحشاً مسعوراً يحاول تسفيه رأيك والاستخفاف بشخصك، وإنّ ما تسمع وتقرأ عكس ما تفهم وتدرك، والآن أصبحتُ أضيف إليهم بعض الدعاة والمتمشيخين، وهكذا الإنسان في كل زمان، إلاّ من رحم الله، وقليل ما هم..!!
أعود إلى مجلّة (راية الإسلام)، وعبد الرحمن السدحان، كان مذ عرفته صاحب مبدأ أدبي، ومسلك مدني، يكتب بإسلوب جميل فيه من طه حسين جرسه وصداه وسجعه ومداه – بل – زاد تمكناً وتألقاً ... كتبت ذات يوم مقالاً أعلن فيه أنّ (لا وحدة إلاّ وحدة الإسلام) فعقّب عليه الأستاذ عبد الكريم الجهيمان وآخرون بالوحدة والقومية العربية، كان هذا وهو طالب في المرحلة الثانوية، ومن شاء فليراجع أعداد صحيفة القصيم ومجلّة (راية الإسلام) – رعى الله تلك الأيام..
أرجع و أعرج إلى بعض الكتّاب وبعض الدعاة فأقول : إنهم مثل زعماء المعارضة في العالم الإسلامي – العربي- يطالبون بالتغيير فإذا قلت لهم لماذا لا يَسمح زعيم الحزب أو أمير الجماعة لنائبه أو مساعده أن يحلّ محلّه ويستريح ويفسح لغيره الطريق.. ؟! صاحوا : أمّا هذا فلا..! سبحان الله ! يطالبون غيرهم بالتغيير وينسون أنفسهم! لهذا صرت حذراً ومتوجسّاً من أكثر الشعراء، والكتّاب والدعاة والخطباء والوعّاظ، وهناك طرائف تروى عن بعضهم في كتب التراث القديم، فكيف الآن..!! الله المستعان...
أعود مرة أخرى إلى مجلة (راية الإسلام) فأطلب من ورثة الشيخ عبد اللطيف وخاصّة ابنه الكاتب اللاّمع محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ أن يتلطّف ويبعث هذه المجلة من مرقدها ويعيدها سيرتها الأولى، يقدّم من خلالها صورة الإسلام والدعوة إليه، كما أرادها مؤسسها – رحمه الله – نقيّة وسطيّة إصلاحية، لا يُخالطها زيف ولا زيغ, ولا يُداخلها ختل ولا مكر، ولا يتمترس خلفها نهّاز فرص، وهمّاز أعراض، وساع ٍ لأغراض أو تطبيق منح وأراضٍ .. يا الله.. يا أمان الخائفين .. من بعثنا من مرقدنا..!!؟؟
تغيرت الديار ومَنْ عليها
ووجهُ الأرض مُغبرّ كليح
الطائف – عصبة الأدباء