الثقافية - فوزية ناصر النعيم :
لعل الحراك الثقافي الذي قاد صهوة جواده في الأيام القليلة الراحلة مركز الأميرة نورة بنت عبدالرحمن الفيصل الاجتماعي بعنيزة؛ انطلاقة لصحوة ثقافية إبداعية تحت شعار (نختلف ولا نفترق) وتسيده نخبة جميلة من كتاب الجزيرة المتألقين على رأسهم الدكتور إبراهيم التركي والدكتور خالد المنيف وأميمة الخميس والدكتورة دلال الحربي وفوزية الحربي ومجاديف أخرى لمركبة تحط مراسيها على شواطئ الاتفاق.. أقول لعله يكون بداية اتفاق للرأي والرأي الآخر المعاكس، ويبدو لي من خلال التنظيم المرئي والمحسوس للمحيطين والمتابعين أن هذا المهرجان الثقافي (متعوب) عليه بدءاً بالفكرة والتنظيم ثم التخطيط والإنفاذ، ناهيك عن الأيدي التي رست فوق القلوب؛ خوفاً من أن تكون النتائج عكس ما يصبي إليها، وأن يرتفع الصوت الآخر المعارض الذي تعودنا عليه في مثل هذه المناسبات ولم تأنسه آذاننا ليضعنا دائماً في مواقف محرجة تنفي عن مجتمعنا صفة الاتفاق والثقافة والجدل الأنيق!!!
لذلك شجاع منا من يتفنن في رسم خطط مثل هذه الفعاليات ويجعلها تمتد لعدة أيام وهو يدرك أن خلف الكواليس نفوساً مريضة تستخلص من العمل الجاد نقاط ضعفه وتظل تضغط عليها حتى يخر الجرح نزفاً!!!
هؤلاء العينة من أنماط البشر يتسيدون المكان ويمسكون بكل مقابضهم على المايكات لئلا تجلجل غير أصواتهم وإن وقع ذلك المايك بين أيدي فئة من المثقفين وضعوا أصابعهم في آذانهم حذر الموت!!!
فكانت الورقة الأنيقة التي قدمتها الدكتورة عزيزة المانع عن مكانة المرأة انطلاقاً مما وصلت إليه كنائبة لوزير مثالاً تمسك عروته.. على أن المراة طاقة مملوءة بالعطاء والإبداع.. كانت هذه الورقة مثل المسامير التي تدقها المطارق في بعض الرؤوس لتفسد قضية الاتفاق لنرحل من نقد السلوك إلى نقد الأشخاص.. هكذا علناً أمام العيون المترقبة دون أن يمنعنا الحياء لنرفض الشخص ورأيه جملة وتفصيلاً ونجاهر برفضه دون اعتبار لشعار المهرجان الذي ندعيه سلوكاً بأننا نختلف ولا نفترق لنختلف ونفترق ثم نفترق لأن ثلة من الناس لا تؤمن بعمق الشعار وأن باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبلهم العذاب.. فيتقاذفون الصفات جزافاً وينمطون الأشخاص (بليبرالي) وعلماني.. وندرك سلفاً أنهم لا يفقهون من هذه الصفات شيئاً إلا أنهم ينعقون بما يسمعون...
ولو أننا تعودنا أن نترك مساحة في حياتنا للرأي الآخر المعارض لمناقشته ومفاوضته لما صنفتنا الآراء بالدول النائمة (أقصد النامية) متى نتجاوز مرحلة، إن لم تكن معي فأنت ضدي (لماذا هذه الضدية؟) لماذا حينما أختلف عنك تشهر في وجهي سيفك (وتسفه رأيي) وتكفرني وتخرجني من الملة؟!!!
لماذا لا تفصل أبجدية الرأي الذي يخالفك وتأخذ منه ما يوافقك وتترك الرعية للراعي لأن الرسول لا يملك إلا البلاغ المبين، ليس ذنبه ألا تفهم وأن عينك لا ترى وأن لديك موروثاً ثقافياً ترفض أن تطوره أو تجمعه مع المواريث الأخرى وأن أكثر شيء في حياتك هي الأقفال دون مفاتيح.. كنا نعلق الآمال كثيراً أن تكون مثل هذه المناسبات الثقافية صاحبة دور ريادي في تطوير القناعات وتغيير لغة الحوار الشائكة، ولكن مع الآسف نراها مع القادمين من ثقافة التطوير كمن يحمل عود ثقاب ليدخل فجوة دهاليز مجرد أن تنير له فوهة الفجوة إلا وتفاجئه الأنفاس متتالية لتطفئ ثقابه لأنهم يعشقون الروتين المميت ويكرهون التغيير ولا يطيقون التجديد ويفضلون عهد أبوجهل المزخرف بالجهل!
تقول الدكتورة أميرة كشغري: نعلم أننا مصنفون ومحددة اتجاهاتنا اجتهاداً قبل أن نأتي.. وأقول يجب ألا يصمت هذا الرأي لأنه إذا بقي رأي واحد دون جدل فلن يكون هناك لغة غير الصمت ولن نصل إلى قرار يقود حياتنا إلى التجديد واللحاق بالركب، ناهيك عما تتوالى على رؤسنا من مطارق بسبب هذا الغلو الذي لم ينزل ربي به سلطاناً!!!
ما الذي جعل ثقافة الإرهاب تهلك جسد الأمة بالغرغرينة ونضطر لبتر أجزائنا إلا لأننا لا نسمع صوتاً غير أصواتنا وكل ما دون صوتنا نحسبه نشازاً لا يروق لنا سماعه أو فهمه أو محاورته بأساليب واعية، لماذا أصبح النقد في محافلنا يحمل سلاحاً ليكون تجريح وتفضيح الأمر الذي يضطرنا وبدقه اختيار النماذج التي تملأ الكراسي وتعبئ الصالات لندرك بعدها أننا لم نصنع شيئاً فهؤلاء قوم هم القوم ذاته لا داعي لوجودهم فنحن نطبق ثقافة التغيير والفئة المستهدفة غائبة تماماً، اشتركنا نحن وهم في تغييبهم لأننا لا نريد الخجل مع الوفود المثقفة وهم لا يريدون القناعات التي تسلبهم جهلهم وإن وجدوا أعلنوا الحرب التي لا تضع أوزارها حتى تسيل الدماء!
كنا في الحقيقة نظن أن عهد التصنيفات رحل مع التسعينيات دون عودة، لكن تصدمنا هذه التجمعات الثقافية أنه مثل الفيروس الذي يظل خامداً حتى تجيء عوارضه وتجعله نشطاً يفتك في الجسد ثم لا تنفع معه المضادات الحيوية مهما كانت قوتها وإن كانت طويلة المفعول.. نريد وبحزم أن نفعل الوقاية لتجنب الأمراض وأعراضها بدلاً من أن نترك الحبل على غاربه ونضطر للعلاج والبتر!!!
- عنيزة