Culture Magazine Thursday  02/07/2009 G Issue 290
الثالثة
الخميس 09 ,رجب 1430   العدد  290
إمضاء
في الحي اللاتيني

 

نفتقد أناسا غادروا الوظيفة العامة أو المشهد الإعلامي في وقت مبكر من عمرهم أو تجربتهم ؛ ونظن - غير آثمين - أن لإمكاناتهم مكانا شاغرا يستحق أن يشغل بهم ، وبخاصة أن الكم لا يغني عن الكيف، وأن الشهادات لا تصلح عنوانا أوحد للجدارة بعدما كثر المتعلمون وقل العلماء، وتعدد الممارسون وتضاءلت المهنية، واصطف العاطلون رغم الفراغات التي لم تملأْ ؛ لكنها قصور الكفاءة وندرة الأكفياء.

لا نفتأ نذكر أننا خسرنا: فهد الدغيثر ومحمد الطويل ومنصور التركي وسليمان السليم وعبدالرحمن الشبيلي وآخرين تواروا في أوج عطائهم وما تزال كراسيهم تتذكر حضورا لهم وغيابا من بعدهم ولبُعْدهم، ودون أن يمس ذلك انتقاصا من خلفائهم، لكنها طبيعة الحياة ترتبط بالأحياء أحيانا؛ فلا تكاد تنفصل فيها المدارات عن الأدوار، والمساءات عن النهار.

كذا نحس حين يمر ذكر الدكتور فهد العرابي الحارثي الذي خسرته الصحافة المطبوعة؛ حين غادر (اليمامة) و(الوطن)، ولم نعد نراه حتى كاتب زاوية - مثلما عهدناه - مؤثرا - كما فعل المنسحبون غيره - التفرغ لأعمالهم الخاصة، مسرورين أن نأوا ؛ فقد وجدوا في العمل (الحر) - بمختلف أنماطه - ما أيقظ فيهم أحاسيس أخرى استهلكها العمل العام فلم يدروا أنها تنتسب لهم أو يأنسون بها ؛ حتى إذا جربوها أسفوا على ماضاع لا ما ضاء قبلها.

فهد الحارثي صحفي من قمة رأسه حتى أخمص قدمه، وكنا - الجيل التالي لجيله - نتابع ذلك البدوي (الباريسي) وهو يذيل مقالاته من (الحي اللاتيني)؛ حتى إذا سار بنا الزمن، وجدنا أنفسنا - دون تفكير - ننقاد - برغبة - لمقاهي ذلك الحي العتيق ؛ فالفتى الأنيق كان هناك، مثلما كان سهيل إدريس وعبدالرحمن بدوي، وكما مشت خطى طه حسين ورفاعة الطهطاوي وزكي مبارك وغالي شكري ومن جاء معهم وقبلهم وبعدهم، مستذكرين مقولة كامل الزهيري 1937-2008م:

« فرنسا هي باريس، وباريس هي الحي اللاتيني» .

كان الحارثي يكتب من باريس، وكنا نتأمل كلماته التي تشبهنا، دون أن نغادرملابسنا وحاراتنا ولغتنا الوحيدة ووجه الأم الجميل ودعوات الجدة الصادقة، ثم نحلم أننا نحلم؛ فنصحو على الثريا الصاعدة نحو الشمال؛ فنظنها تمر بديار (هوغو ولامارتين) لتبلغهم تحيات (سهيل اليماني) فتقول: (صلوا أو مروا طيف الخيال يزور).

هكذا أثر بنا (أبو محمد) دون أن يدري، وهكذا ظللنا نتابعه بعد عودته و(اليمامة) تعانق الذرى، و(الوطن) يوثق العرى، ولم يكن من المهم أن نلتقيه أو نأخذ عنه؛ فقد وعينا عنه ومنه ما كفانا زمنا لعله أجمل الزمن.

اثنا عشر عاما أستاذا جامعيا ورئيس تحرير، ومثلها عضوا في مجلس الشورى، ومؤلفا ومحكما ومراجعا ومستشارا ومحاضرا ورئيس مركز للبحوث والدراسات الإعلامية، وقلما يحمل جمالا وجزالة وجراة، هكذا نعرف الحارثي وهكذا نألفه، مؤملين أن يعود إلى الحضور الكتابي المنتظم فمثله يفتقد.

العاديون (فقط) يتكررون.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة