Culture Magazine Thursday  02/07/2009 G Issue 290
قراءات
الخميس 09 ,رجب 1430   العدد  290
تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب (الشعر والشعراء)
فيصل المنصور

 

كنتُ قرأتُ المقالينِ اللذين صَدَّر بهما الشيخُ أحمدُ شاكر كتاب (الشعر والشعراءِ) لابن قتيبةَ.

وهما مقالانِ كتبَهما السيد صقر ينتقدُ بهما تحقيقَه. فرأيتُه أنكرَ بعضَ الرِّواياتِ الصحيحةِ، ولجَّ في نفيِها، إما لمكانِ الإلْفِ، والعادةِ من نفسِه، وإما لأنَّه وجدَها في بعضِ الكتبِ على غيرِ ما هي عليهِ في كتابِ ابنِ قتيبةَ، وخفِيَت عليهِ مواضعُها في الكتبِ الأخرَى. فكرِهتُ أن يتجرَّم دهرٌ، فيعتقِدَ الناس كلَّ ما ذكرَه حقًّا. وقد تضيعُ النُّسَخ المخطوطةُ التي حفِظت لنا هذه الرِّواياتِ، أو يعسُر على جمهورِ الناسِ الرجوعُ إليها. فذكرتُ منها بعضَ ما صادفتُ غيرَ مستقصٍ، ولا مستوعبٍ:

1- قالَ السيد صقر (1 -10):

(قال امرؤ القيس يصِف فرسًا:

كميت يزِل اللِّبدُ عن حال متنِه

كما زلَّتِ الصفواءُ بالمتنزَّلِ

والصواب: (بالمتنزِّل) كما جاء في شرح المعلقات للتبريزي ص 41، والديوان 133).هـ.

قلتُ:

هذه الرِّواية التي خطَّأها روايةٌ ثابتةٌ صحيحةٌ رواها ابنُ قتيبةَ (ت 276 هـ) نفسُه في (كتاب المعاني الكبير 1 -146)، ورواها أيضًا شيخُه أبو حاتمٍ السجستانيُّ (ت 255 هـ) في (المذكر والمؤنث 161)، وأبو منصور الأزهريُّ (ت 370 هـ) في (تهذيب اللغة 12 -249). ويبعُد أن تكونَ مصحَّفةً في جميعِ هذه الكتبِ.

فهذا ما بلغَنا من الرِّوايةِ في ضبط هذه الكلمة. وهي صحيحةٌ في اللغةِ ؛ فقد وردَ في المعاجمِ أن (تنزَّلَه) مثلُ (نزَّله)؛ ف (المتنزَّل) إذن بمعنى (المنزَّل)؛ وهو المطرُ.

2-قال السيد صقر (1 -10):

(وقال الآخر:

أرأيت إن بكرت بليلٍ هامتي

وخرجت منها باليًا أثوابي

وهو خطأ، والصواب:

وخرجت منها عاريًا أثوابي

... لأن الإنسان لا يخرج من الدنيا باليَ الأثواب؛ بل يخرج منها عاريًا) ا. هـ.

قلتُ:

هذا ليس خطأ كما ذكرَ ؛ فقد رواها كذلك أبو عليّ القالي (ت 356 هـ) في (أماليه 2 -279). ويمكنُ أن يُّخرَّج على وجهينِ ذكرَهما أبو عبيد البكريُّ (ت 487 هـ) في (اللآلي 2 -922):

أحدُهما: أن الأكفانَ لا تكون إلا مما بلِيَ عادةً.

الآخر: أن يكون هذا مجازًا مرسَلاً عَلاقتُه المستقبليَّةُ ؛ أرادَ أنَّ مصيرَها للبِلى، كما قالَ تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}، وكما يقال : قتلتُ القتيلَ. ويشهدُ لهذه الروايةِ قولُ النابغة الجعدي :

أرأيت إن صرخت بليلٍ هامتي

وخرجت منها باليًا أوصالي

وهو شاهدٌ للسماعِ، لأنه اهتدمَ هذا البيتَ؛ لم يغيِّر فيه إلا الكلمة الأخيرة، وشاهدٌ للقياسِ، لأن المرء لا تبلَى أوصالُه حالَ خروجه من الدنيا ؛ وإنما تبلَى بعد ذلك.

3- قالَ السيد صقر (1 -13) :

(كقول العباس بن مرداس السلمي:

وما كان بدرٌ ولا حابسٌ

يفوقان مرداسَ في مجمعِ

وكذلك وردَ مرةً أخرَى. ..، وهو خطأ. والصواب : ( وما كان حصنٌ ولا حابسٌ) ثم أخذ يعدِّد المصادر التي فيها هذه الرواية) ا. هـ.

قلت:

ما خطَّأه ليس خطأً ؛ فقد رواهُ كذلكَ ابنُ سعدٍ (230 هـ) في (طبقاتِه 4 -272)، ومسلمٌ (ت 261 هـ) في (صحيحه، رقم 1060). وهو في (العقد الفريد 5 -357) لابن عبد ربه (ت 328 هـ) عن أبي حاتمٍ السجستانيِّ.

وله وجهٌ من النظرِ ؛ فإن عيينةَ هو ابن حصن بن حذيفة بن بدرٍ ؛ ف (بدرٌ) جدُّه؛ وإن كنت أرى أن الأرجحَ روايةُ (حصن) حتى يقابِلَ (حابسًا)، و (مرداسًا)، لأنهما أبوان، وليسا جدَّينِ ؛ ولكن لا يجوز أن تُقدَّم رِوايةُ نسخةٍ على أخرَى إذا كانت الأولَى أوثقَ عند المحقِّق، وكانتِ الرِّوايةُ التي فيها محتملةً مقبولةً. وللمحقِّق أن يعلِّق في الحاشية بما يشاءُ.

4-قال السيد صقر (1 -14):

وقدَّمتِ الأديمَ لراهشَيهِ

وألفى قولها كذبًا ومينًا

هكذا جاء في الطبعتين: (وقدَّمتِ الأديمَ). وهو خطأ. والصواب: (وقدَّدتِ) ا. هـ.

قلتُ:

هذه الرِّواية ليست خطأ ؛ فهي رواية أبي زكرياءَ الفراءِ (ت 207 هـ) في (معاني القرآن 1 -37)، وأبي عبيدةَ معمرِ بنِ المثنَّى (ت 210 هـ) في (الديباج 112)، وابنِ سلامٍ الجمَحيِّ (ت 231 هـ) في (طبقات فحول الشعراء 1 -76) ونقلَ كلامَه أبو عبيد الله المرزبانيُّ (ت 384 هـ) في (الموشح 15) بهذه الرواية. وهي أيضًا روايةُ أبي بكرٍ الأنباريِّ (ت 328 هـ) في (الزاهر في معاني كلام الناسِ 1 -157)، وقدامةَ بنِ جعفر (ت 337 هـ) في (نقد الشعر 182)، والجوهريِّ (ت 393 هـ) في (الصحاح 7 -60)، والشريفِ المرتضى (ت 436 هـ) في (أماليه 2 -258)، و الزمخشريِّ (ت 538 هـ) في (المستقصى في أمثال العر ب 1 -243)، وغيرِهم.

وهذا البيتُ لعَديِّ بن زيد العِباديِّ، يصِف فيه خبرَ جَذيمةَ الأبرشِ مع الزبَّاء عندما دعته إليها، وأوهمتْه أنها ستتزوجُه، وتَدينُ له ؛ فلما جاءَ، غدرت به، وقدَّمت الأديمَ (وهو الجلد المدبوغ)؛ فجعلته تحت ذراعيه، حتى لا يسيلَ الدمُ، ثم قطعت راهشَيْهِ (وهما عرقان في باطن الذراعِ تراهما ظاهرينِ) حتى ماتَ.

بل إنَّ رِواية (قدَّمت) أبلغُ من (قدَّدت)؛ فهي تصوِّر جَذيمةَ وهو قادِمٌ إلى الزبَّاءِ يطمعُ أن تقدِّم له نفسَها، ومُلكَها كما وعدته؛ فإذا هي تقدِّمُ له الأديمَ، لتقتلَه. وهذه مفارقةٌ بلاغيَّةٌ بديعيَّةٌ تعملُ على إبراز مفاصلِ الحدثِ، ومقاطعِه، ومواضعِ العجَب منه بأجلَى صورةٍ ؛ ألا ترى أن ذلك أشعرَك مقدار الخيبة، والخُسْر اللذينِ مُنِِي بهما، وأيُّ شيء أحاطَ به، وكم من الآمال التي تحطَّمت دون أن ينالَها. ونظيرُ هذا اللون من البلاغة قوله تعالى: ?إِ نَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا?، وقوله:?إهَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ?.

faysalmansour@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة