Culture Magazine Thursday  02/07/2009 G Issue 290
فضاءات
الخميس 09 ,رجب 1430   العدد  290
المكان
قاسم حول

 

انقسم مثقفو العراق إلى مثقفي الداخل ومثقفي الخارج. وانقسمت الثقافة العراقية إلى ثقافة الداخل وثقافة الخارج. هذه التسميات أصبحت متداولة في الكتابات العراقية.

لم أكن أظن بأن هذا التقسيم واقعي وحقيقي، لأن الثقافة العراقية واحدة سواء المغترب منها أو التي لم تغترب. لكنني وجدت في عودتي للعراق أن هذه الثقافة وإن كانت عراقية الجذور فإن نكهة ثقافة الخارج تأثرت بضرورة المعايشة بثقافة المكان وأصيبت بنوع من الترف بضرورة الاسترخاء والاكتفاء، وإن معاناة المثقفين الذين لم تتح لهم فرصة المغادرة أو الهروب أو برغبة التشبث بالوطن مهما قست الظروف تنعكس هذه المعاناة بالضرورة على مواصفات المكان وتتأثر به.

هذه الظاهرة ليست عراقية فهي لبنانية كانت ويونانية أيضا وروسية كذلك، وكثير من مثقفي بلدان العالم الذين عانوا من العسف، عسف السلطة، وأحيانا عسف المجتمع رحلوا باتجاه الاغتراب وكتبوا أدبا مختلفا. وما يطلق عليه تلاقح الثقافات انعكس بهذا الشكل أو ذاك على أدب وثقافة المغتربين.

لكن نكهة ثقافة الداخل بقيت سمة واضحة في كتابات الذين بقوا وتشبثوا بأوطانهم، وكان هذا واضحا في ثقافة العراقيين بكل أدواتها التعبيرية الأدبية منها والفنية. وإذا كان المطبوع فيما مضى سلطويا فإنه اليوم خرج تماما من جيب السلطة وصار فرصة سهلة وحرة وفيها الكثير من الكم والنوع حيث بدأت تزدهر الطباعة ويزدهر المطبوع في مضمونه وشكله. وأثار ذلك أحقادا كثيرة في العقول المتخلفة السابقة منها أو اللاحقة واتخذ الحقد شكل التصفيات الجسدية وشكل الاعتداء على مراكز الثقافة ومنتدياتها في محاولة لتطويق هذه الحرية وهذا الإبداع المتحرر.

لم تكن فرص الطباعة والنشر والقراءة قد اتسعت اليوم في العراق فحسب ولكن تأسست أيضا مطابع حديثة وبدأت مطبوعات أنيقة تظهر في واجهات المكتبات. عناوين كانت حتى بعد سقوط الدكتاتور في العراق محرمة وغير مرغوب فيها وصاحبها على باب داره إشارة غريبة رسمت بالصبغ تحمل إشارة الأكس أو علامة الخطأ. اليوم الحال اختلف كثيرا، فحركة اللقاءات الأدبية حركة ناشطة.. هذا لا يعني أنها بلغت شاطئ الأمان فلا يزال الواقع محفوفا بالمخاطر والهواجس والتوقعات، لكن المثقف العراقي لا ينظر إلى مثل هذه الهواجس والمخاوف، فهو يعيش اللحظة ويريد أن يدفع بها نحو المواقع الأكثر أمانا وذلك بنشر الثقافة وفرضها على الواقع كي تصبح هي الظاهرة وهي السائدة ولتطرد بضرورة الواقع ثقافة التخلف والتهديد والجفاف.

هو صراع ليس سهلا حسمه لصالح التقدم والوعي والازدهار. لكن المثقفين في العراق يمتلكون إصرارا جميلا على المواصلة.. مواصلة نهج الكتابة والنشر وعمل المؤتمرات الثقافية والمهرجانات. أفلام تنتج ولا توجد صالات سينما تعرض تلك الأفلام. مسرحيات تكتب ويتم إخراجها ولكن لا توجد مسارح تعرض عليها تلك المسرحيات، لكن رغبة الإبداع هي السائدة أما رغبة التوصيل والتواصل فإنها محاطة بظروف صعبة. القاعدة المادية للإنتاج الفني مدمرة بالكامل وصالات السينما والمسارح تحولت إلى مخازن أو إلى مطاعم، وسئلت أكثر من مرة وأنا أنفذ فيلمي الروائي (أين ستعرض فيلمك بعد أن تنجزه) فكانت إجاباتي محيرة وصعبة، فلقد زرت صالات السينما ولم أجد فيها فيلما ولا حتى بقايا أفيش – ملصق أعثر فيه على صورة ممثلة أو ممثل. لكن ثمة إصرار عند الجميع أن لا نركن إلى السكون فالبركة في الحركة.

ومع أن ثمن الحركة باهظ وهو ليس مقولة ولا مضمون. هو ثمن دفع وقد يدفع لا سمح الله اليوم أو غدا، لكن ثمة إصرار يتجسد في عدم الركون إلى السكون. فالسكون يعني حالة تشبه الموت المادي. وهذا مثار رعب دون شك.

في واقع الحركة الثقافية في العراق التي حاولت قراءتها أحسست بأن الذين بقوا داخل الوطن سواء في حقبة الدكتاتورية أو بعد سقوطها بقيت ثمة نكهة عراقية واضحة في كتاباتهم. ثمة حرارة ودفء هو دفء الوطن وحنان هو حنان الوطن، وإننا نحن الذين كتبنا من (بره) ليس في ما كتبناه ذات الحنان وذات المودة وذات العمق العراقي مهما ادعينا ذلك. فلقد عشت أنا شخصيا في الأقل تجربة معرفة الواقع بعد غياب أكثر من ثلاثين عاما عن الوطن وعن المكان. وقبل أن أحزم أمري للسفر باتجاه الوطن وباتجاه مدينتي كتبت رواية والحمد لله أني لم أنشرها. وموضوعها عراقي وشخوصها عراقية وأحداثها عراقية. عندما وصلت الوطن والمكان شاهدت الصورة هي غير الصورة وشكل الناس هو غير شكل الناس ولهجتهم هي غير لهجتهم في الرواية. شعرت كأنني كتبت من اللامكان وعن اللامكان.

شاهدت امرأة متحجبة وتضع الخمار على وجهها. ليست امرأة واحدة بل نساء يدخلن فجرا في حاويات المزابل ويرمين بالنفايات خارج الحاوية ثم يخرجن من بطن الحاوية يحملن كيسا أسود اللون مليء بالقناني البلاستيكية الفارغة. هذا يحصل في كل فجر في كل حي من الأحياء. هذه الصورة لا أعرفها ولم أكن أعرفها من قبل. خضرة سعفات النخيل هي ليست ذات الخضرة التي كنت أراها في نخيل العراق. منطقة فيها ثلاثون مليون نخلة شاهدتها معدمة ومنها بقايا شواهد على حجم الجريمة. هذه الصورة كيف لي أن أصفها وكيف لي أن أكتب عنها وأنا أعيش ترف القطارات الملونة وبهجة صالات السينما وهدوء المسارح وكهنوتيتها. كيف لي أن أصور في كاميرتي هذا الواقع وأنا المترف الذي يتحدث عن غربته من بعيد البعيد.

عندما وصلت إلى البصرة وشاهدت الواقع وأنا أجري التحضيرات لتصوير فيلمي الروائي (المغني). أجريت تعديلات على كثير من مشاهد السيناريو بنفس المضمون لكنني غيرت في شكل تلك المشاهد حيث الواقع الذي شاهدته هو غير الواقع الذي كنت أتصوره وكتبته. والأكثر من هذا أني كنت متخوفا بعض الشيء من مشاعر الناس إزاء الكاميرا وخاصة الكاميرا الآتية من الخارج.. كنت أضع الكاميرات وأرتب المشهد في أزقة نائية عن المدينة وأنا أحاول أن أكتشف مشاعر الناس كي ألتقط الخيط الذي يمكنني من محاورتهم في مساعدتنا على تنفيذ بعض المشاهد في الشوارع والأزقة، فلمست فرح الناس بعودة الكاميرا لهم وشاهدت هدوءهم ومودتهم واندهاشهم بممثلين يتحركون مثل ما يتحركون ويتحدثون بمثل ما يتحدثون. لم تمر سوى بضعة مشاهد حتى بدأت (صواني) الشاي والماء البارد تخرج من بيوت الناس وتهدى لممثلي الفيلم والمصورين.

ومثلما غيرت بعض مشاهد السيناريو ونفذتها بشكل مختلف يعبر حقا عن الواقع، فإنني عندما عدت ركنت روايتي جانبا وأعدت كتابتها من جديد.

أعترف أن ثمة ثقافة في الداخل مزاجها الناس ومادتها الناس وهدفها الناس والغد الحالم وثمة ثقافة مسترخية تعيش خارج المكان.. كنت أفكر تصوير فيلمي في قصر من القصور المترفة خارج العراق وفي أزقة تشبه أزقة العراق ومع ناس يشبهون ناس العراق، وكان ذلك مستحيلا وأنا سعيد أنني لم أخضع لهذه الرغبة.. سعيد أنني صورت فيلمي في العراق وفي البصرة، في ذات المكان الذي تدور فيه أحداث القصة.

المثقفون العراقيون لهم رأي في ثقافة الخارج ولهم الحق في رأيهم ذاك بشكل أو بآخر. وهذا الأمر ينبغي أن يحسم وأن يتم التلاقح ليس بين ثقافة الوطن وثقافة الغرب بل بين ثقافة الداخل وثقافة الخارج بعد أن تكسر ليس جدار الغربة بل تكسر جدار الخوف، وهذا هو الأهم.. الحمد لله.

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

سينمائي عراقي مقيم في هولندا sununu@ziggo.nl هولندا

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة