Culture Magazine Thursday  02/07/2009 G Issue 290
الملف
الخميس 09 ,رجب 1430   العدد  290
عابد خزندار.. الذي قبِل التحدي وعاش في خيمة بوادي السرحان
محمد بن عبد الرزاق القشعمي

 

مع بداية تعمق علاقتي بالأستاذ عبد الكريم الجهيمان قبل عشرين عاماً، وأثناء إقامة (المهرجان الوطني للتراث والثقافة) السنوي بالرياض عرفت الأستاذ عابد خزندار في إحدى زياراته لصديقه الجهيمان في منزله، ولم أكن أعرف عمق علاقتهما إلا بعد أن اطلعت على مذكرات الأستاذ الجهيمان (مذكرات .. وذكريات من حياتي) ط1، 1415هـ، 1995م.

والأستاذ عابد من ضيوف مهرجان الجنادرية السنوي الدائمين. وأصبحنا نلتقي على هامشه، إما مع أستاذنا الجهيمان أو مع غيره .. سواء في ردهات الفندق أو لدى بعض الأصدقاء .. عرفت الخزندار أكثر من خلال كتاباته قبل أن ألتقيه .. فقد كنت أتابع ما يكتبه في عدد الجمعة بجريدة الرياض قبل 25 عاماً .. أذكر أنه كان ينشر ما يشبه المذكرات أو السيرة الذاتية تحت عنوان: (حديث المجنون).. صرت اتصل به هاتفياً بمنزله بجدة .. وعرفت شقيقه حسن، إذ كان يدير مكتب المؤسسة (الخزندار للدوريات الأجنبية) وكان حريصاً على سرعة وصول مذكرات صديقه الجهيمان .. فذهبت لشقيقه بالمؤسسة وسلمته الكتاب .. وتعمّقت علاقتي به بعد ذلك .. وكنت قبل ذلك قد حضرت ندوة - قراءة جديدة للتراث - أقامها (نادي جدة الأدبي الثقافي) أعتقد أنها منتصف عام 1991م وكان قد دعا بعض المثقفين العرب في منزله على هامش هذه الندوة أذكر منهم، الدكاترة: جابر عصفور وعبد الملك مرتاض وكمال أبو ديب، وكنت قد قدمت من الرياض بصحبة الأخ الشاعر عبد الله الصيخان في الليلة نفسها وحضرنا آخر ندوة، وقد دعانا لمشاركتهم .. وهكذا كان، وقد استمتعنا بليلة أدبية رائعة تجولنا فيها بين العواصم العربية، ففي الجزائر حيث عبد الملك مرتاض، وصنعاء حيث يدرِّس كمال أبو ديب، والكويت إذ كان جابر عصفور أستاذاً بجامعتها، واستمعوا للشعر الحديث من عبد الله الصيخان.

في عام 1416هـ - 1986م وبعد انتقال عملي لمكتبة الملك فهد الوطنية كنت أزور جدة للتسجيل مع بعض الرواد ضمن برنامج التاريخ الشفهي للمملكة، وكنت لدى الأستاذ عزيز ضياء - رحمه الله -، فسألني: ستكون عند من غداً؟ فقلت له: سأكون لدى الأستاذ عابد خزندار فرد عليّ بأنّ هناك رجلاً مهماً، وأخذ يعدد صفاته وعرفت أنه يقصد والده محمد علي خزندار، وفعلاً ما أن جلست للقاء في الليلة الثانية مع الأستاذ عابد حتى ذكرت له ما قاله عزيز ضياء .. فقال موعدك غداً مع الوالد فهو يسكن في الطابق الأرضي من منزله.

وهكذا تم اللقاء مع الولد والوالد .. فوجدت لدى والده مخزوناً وافراً من المعلومات التاريخية المهمة؛ إذ كان يعمل سكرتيراً للوزير الأول عبد الله السليمان عند بداية توحيد المملكة..

أعود لعابد وأقول: إنني اتصلت به عام 1418هـ بمناسبة عودة الأستاذ عبد العزيز مشري - رحمه الله - من رحلة علاج بأمريكا وذكرت له أنني سوف أرافق أستاذنا الجهيمان لزيارة جدة ولقائكم وتهنئة المشري بسلامة وصوله بعد رحلة العودة .. ولكن الجهيمان اشترط أن يزور زميله الأستاذ عبد الله عبد الجبار عندما كانا يدرِّسان في مدرسة تحضير البعثات حدود عام 1358-1359هـ -1930م أي قبل سبعين عاماً .. فاشترط علينا عابد أن نكون في ضيافته حتى يدلنا على العبد الجبار .. وفعلاً وصلنا في موسم الأمطار، وكانت جدة تعوم وسط برك الماء..

عرفت من خلال حديثهما - الجهيمان والخزندار - مدى احترامهما بعضهما لبعض، وعمق علاقتهما، وقد اختير الجهيمان بعد ذلك بسنتين لتكريمه كأحد روادنا في حفل افتتاح المهرجان الوطني للتراث والثقافة لعام 1421ه، وأعددت كتاباً بالمناسبة قدم له الأستاذ عابد بكلمة عنوانها ب(رجل أحب بلده) ومما قاله: (.. ولعلِّي أستطيع بحكم صلتي الوثيقة بالجهيمان ومعايشتي له والعشرة اللصيقة التي قضيناها عامين في سكن واحد ... تجعلني أتعرف عليه وأعرف القارئ بملامح شخصية التي شكلتها الأحداث التي أحاطت بمولده وأهمها كراهيته العميقة للجهل والتي دفعته إلى أن يحاربه حرباً عواناً طيلة حياته ...) ... وقال: (.. فالرجال معادن لا تعرف حقائقها إلا بالاحتكاك .. أما الظواهر فهي قشور أغطية زائفة لا ينخدع بها إلا قصار النظر ممن تغرهم المظاهر .. وعلى هذا فإنني أستطيع أن أقول بكل ثقة واطمئنان إنّ الجهيمان من أنبل الرجال الذين عرفتهم ومن الذين يحبون مكارم الأخلاق ويعيشونها واقعاً عملياً وممارسة حقيقية في حياتهم وكانت الأيام التي قضيتها معه على ضيق السجن وقيوده وضنكه من أسعد أيام حياتي، وقد قرأت عليه كتاب الأغاني للأصفهاني غير مرة، وأنا أدين بثقافتي العربية للجهيمان الذي شرح لي بصبر ما استغلق عليّ من شعر العرب ويكشف لي عن طُرفه ومناحي الجمال فيه، وكنا لا ننام من الليل إلاّ أقله ...).

مع كتاباته المبكرة:

وقد قيل إنه - الخزندار- لم يبدأ الكتابة إلا متأخراً ولكن لعلّي أذكر هنا شيئاً من بداياته المبكرة مع الكتابة بحكم اطلاعي وتتبعي للصحف المبكرة في المملكة، وجدت عابد يكتب في صفحة (دنيا الطلبة) بجريدة البلاد السعودية والتي كان يشرف عليها المربي عبد الرزاق بليلة، وكان يخصص عدد شهرياً من الصفحة ل (صحيفة البعثات السعودية .. تصدر عن دار البعثات السعودية بمصر) من إعداد محمد عبد القادر علاقي .. وقد وجدت له زاوية بعنوان (دعوة إلى الحياة ...) في العدد 67 ليوم الأربعاء 15 رجب 1374ه، 9 مارس 1955م قدم لها معد الصفحة بقوله: (يقولون عن كاتب هذه السطور إنه صاحب أجمل أسلوب في البعثة وذلك حق، فصديقي عابد يدعو إلى ثورة في المعاني والألفاظ ومفهومات

الأشياء: وسترون في هذا المقال وبعض التعبيرات الجديدة مثل الرمادية وهامش الحياة، و(الوجود) وهذه ستمر دون أن يلحظها الرقيب ولن يدركها أيضاً القارئ العادي، وسبب وجودها أن عابد يقرأ الكثير).

اختتم مقالته الأولى بقوله: (.. ولكن كيف نحيا وكيف يكون لهذه الحياة معنى ؟. السبيل الوحيد لذلك هو أن نتجرد من المعطيات والتقاليد والأحكام المسبقة، ونحاول أن نقف الموقف الذي يمليه علينا إدراكنا ووعينا للأشياء لا ذلك الموقف الذي يفرضه المجتمع، وأنني واثق .. أنه إذا استطعنا أن نحقق هذه الغاية فسننطلق إلى أجواء فساح يحيا فيها الإنسان ويحقق وجوده).

وفي المقال الثاني بالعنوان نفسه (دعوة إلى الحياة ..) في 27 شعبان 1374هـ، 20 أبريل 1955م يكتب عن (التقاليد) ويستهلها بقوله: (نستطيع أن نقول على سبيل التعريف إنها نتاج حياة أجيال سبقتنا في الزمان والمكان بحيث يتجدد في هذا إنتاج جميع الأحكام التي أطلقها الإنسان على الأشياء والمسميات من حوله (...) وقال: (.. ودائماً .. نجد الشخص الذي يعجز عن أن يكون حراً في تصرفه ومسئولاً عن هذا التصرف بالتالي عاجزاً عن التقدم كليلاً عن النهوض، كما أن الأمة التي يتكون مجموعها من هؤلاء الأفراد تصبح مشلولة الخطى، قابعة في مكانها أبداً في حين أننا نجد أمماً كثيرة وصلت إلى حد التشبع من الرقي لأنها انطلقت من أسر التقاليد وغيرها ... الخ).

كما وجدت في كتاب (طلبة البعثات السعودية في المرآة) لعبد الله سلامة الجهني وعبد الرحمن التونسي، ط1، 1374هـ-1954م، وجدت له مقالاً بعنوان (محنة الأدب .. وطه حسين) ص 54-56، وكان من حسن حظي أنني قد عثرت على هذا المقال وأضفته لكتاب صدر لي مؤخراً عن النادي الأدبي بالرياض بعنوان (طه حسين في المملكة العربية السعودية) عند رئاسته للجنة الثقافية بجامعة الدول العربية في اجتماعها بجدة عام 1374هـ-1955م.

كما أنه بعد عودته من أمريكا للمملكة وهو يحمل درجة (ماجستير في العلوم) استمر يكتب في جريدة البلاد - بعد ضم البلاد السعودية مع جريدة عرفات عام 1378هـ - فنجد له مقالاً بعنوان (العلم .. والحياة) في العدد 708 ليوم الأربعاء 23 ذو الحجة 1380هـ، 7 نوفمبر 1961م وهو يتحدث عن أهمية التخطيط في حياة الإنسان (.. ولعل التخطيط كوسيلة لاستغلال الطاقات الطبيعية والإنتاجية والإنسانية في المجتمع أوضح مظهر من مظاهر هذه السيطرة، والتخطيط بشكله الذي نلمسه في كثير من البلاد ينبثق كفلسفة أو فكرة متكاملة تفتق عنها ذهن عالم أو فيلسوف من فلاسفة الاقتصاد، بل إن التخطيط نشأ نتيجة لمحاولة تطبيق بعض الأفكار الاقتصادية التي كانت تدعو إلى تنظيم استثمار الثروة في المجتمع وتوزيعها توزيعاً متعادلاً ومتكافئاً .. الخ).

أعود إلى ما كان يدور من أحاديث جانبية بين الصديقين - الجيمان والخزندار- أذكر أنه عند عودته للمملكة وعمله بوزارة الزراعة - إذ كان خريج كلية الزراعة بجامعة القاهرة نحو عام 58 -1959م وكان وزيرها آنذاك عبد الله الدباغ، وقد أوكل إليه مسؤولية الغابات والمحافظة عليها والاهتمام بتشجيع المزارعين بإمدادهم ببعض الآلات (مكائن) لنزح المياه من الآبار، واستبدال السواني بها، وقال الوزير في إحدى اجتماعاته بالمديرين والوكلاء .. إنكم تجلسون في مكاتب مكيفة ولا تعرفون معاناة الفلاحين وما يعترضهم من مصاعب ! - فقبل التحدي وذهب ليعيش في خيمة على ضفاف وادي السرحان بمنطقة الجوف في شمال المملكة، وتوطدت علاقته بالفلاحين وأمن لهم المكائن والبذور والأسمدة ومن خلال تواجده هناك بينهم رافقه ولو لبعض الوقت بعض الخبراء .. فيذكر أن شيخ الرولة (أورنس النوري الشعلان) كان يزوره بخيمته ويستغرب من ابن الحجاز كيف يعيش مع البدو .. أقول إن المجلة الثقافية قد اختارت الرجل المناسب والذي يستحق التكريم والاحتفاء بمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين من عمره المديد فهو ما زال يطالعنا صباح كل يوم عبر جريدة الرياض ضمن زاويته الشهيرة (نثار) والمهتمة بالشأن العام وقضايا المجتمع، وما يتعلق بحقوق الفئات التي لا صوت لها، فقد نذر نفسه خلال العقدين الأخيرين للكتابة بهذا الشأن - أطال الله عمره -.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة