Culture Magazine Monday  23/06/2008 G Issue 253
فضاءات
الأثنين 19 ,جمادى الثانية 1429   العدد  253
 

التجديد.. الجاحظ.. الشعوبية
معيض البخيتان

 

 

يقال إن التجديد شرط من شروط الحياة وتحول طبيعي في سيكلوجية الوظيفة المبدعة؛ وإن لم تحدد هذه الوظيفة في شكل ايدلوجي متعارف عليه إنما هي عبارة عن مجموعة أفكار كل يتصور طريقته وموقفه مع الحياة تجاهها.. ومن ثم يداخل ويظن بالتدريج وفق توجهه وميوله النفسية؛ هذا التوجه الظان وهذا الميل النفسي هما اللذان يخلقان التوتر أو الحاجة إلى الإتصال بالخبرة؛ والإنسان في مطلع حياته قليلاً ما يقتنع بما حوله وقليلاً ما يرضى عن طبيعة التزامن في النتائج ومتغيرات الخطاب أوالإرتقاء بالمحسوس.. تجده يلهث بالبحث عن الصورة قبل الاتجاه.. في طلب المفهوم قبل التنظيم.. حالة يمر بها كل إنسان على وجه الأرض لكن هذا المرور قد يكون بقدر؛ وقد يكون حالة مرضية توصف أحياناً بالارتباط غير المتكافئ (سلبي، تطرف، ضياع، علاقة) هذه هي الخطوط الأولية والنهائية فيما نعانيه من أزمة التجديد المفتعل في الأشكال وفي المضامين الإبداعية.. الشعر، القصة، الرواية اللهم إلا بعض السمات الخاصة؛ فما هو الظرف والقدرة التي ستهيؤ لنا الحوار المقبول للخروج من دائرة التنافر وتعبيرات الشعور؟!

إن التجديد بحد ذاته قد يكون فيه شيء من الرفض وقد يكون فيه شيء من التوافق لما هو جميل وصحيح أما إن نطوح بالكلمات ونخلط بين المحسوسات والمستهلكات الآنية (الملبس والمأكل) وبين الأشياء الفكرية والرموز المعنوية فهذا ظلم وجهل يغلف ما وصلنا إليه من حركة الحضارة وتعارض المفاهيم.. إن الامتداد - الامتداد التاريخي والواجهات الفلسفية في العالم المتقدم لم تغفل تقدمنا في الحركة الكونية علاوة على أن النظريات التي تنطلق دراساتها الأدبية والإنسانية عن برهنتها عبارة عن آراء ليست مستقلة وإنما تطور وتعمق من خلال نصوص أدبائه ومفكريه؛ فإذا أخذنا هذا الطرح بعين الاعتبار - وهو الصحيح - علمنا أن القصور لدينا يكمن في التنظير وليس في الإبداع ومن هنا نلتمس الخيط المشكلة؛ فالأصوات العاشة التي تجمع أو تكاد على أن القصيدة في تشكلها المتأخر تلائم العصر وتوافق عطاءه ومستجداته المتثاقفة؛ تجاوز غير محمود لمسيرتنا القريبة سواء في عمرها أو في خطوها؛ لأن هذا الرأي منقول من أساسه وخاطئ في تصوره وفي وضعه.. لا من الوجهة الثابتة ولا من الناحية الفلسفية.

وعليه نخلص إلى أن هذه الرؤية المتسرعة أو لنقل المنسوخة تبين إجحافها في حق مصدر القصيدة العربية الأصيلة وبالتالي في حق مستقبل وحاضر الأمة التي هذه القصيدة إحدى ركائزها ونتيجة طبع يعطي بالاحساس المبدع ويأخذ بالاستجابة والسلوك المتفاعل!! فلماذا لا نتدارس الأمر ونستبدل الحلول أو نزاوج بينها؟!

لماذا لا يكون التجديد - إن كان ثمة من يهتم له - بعيداً عن مواقف التصدع والرفض الحاد من كلا الطرفين.. ولماذا لا تكون الدعوة إلى التجديد من داخل معمارية القصيدة ونترك لكل لوحة أن تحدد أطرها وفق ما يفهمه الناس ويتفاعلون مع تغيره في تأدية الأفعال وتوجه الأحداث.. وإلى متى وفضول بعض الكتبة تلقى الاستجابة فمن بعض المبدعين ليقولوا في عطائهم ما لم يقولوا وما لا يخطر على بال.. لقد ساء المنهج الذي وقف عند كتاب يخلط بين الأنساق الفكرية وبين المعطيات مع أن تاريخ الفكر (الأبستمولوجيا) لا يزال يحمل كثيراً من الأخطاء والمراجعات المتكررة.. والمنهج النقدي الصادق هو الذي يفرق بين ما هو فعلي وبين ما هو منتحل فما بالك إذا كان هذا المنهج ليس منتحلاً فحسب ولكنه منسوخ من أساسه حرفاً حرفاً أو كما يقال في العربية ممسوخ في جلد قرد!!

إن القصيدة الأصيلة هي الروح الفعلي للغتها والصوت الذي تقف دونه الأصوات في كل مضامرنا حتى الآن. ولئن كان للبعض معها مواقف أخفقت وخذلتهم مواهبهم في الأتيان بالنادر والمتخطئ فلأنهم هكذا خلقوا ومجازفتهم بكل ما لديهم من أبعاد ذواتهم سيؤول في النهاية إلى الإغراق في الذاتية والاستجداء أو كما يمارس مع التراكم الأمي.. و(لكل معطوب كيال أعور).

لكن الملفت يا أعور يا عوران أن هناك ارتباط واضح بين الشعوبية وبين بعض الحركات منذ بروز العرب كأمة لها شأنها ومع ذلك لا أدري ماذا تعنيه الشعوبية في الزمن الحاضر؛ ولا ما هو المسمى الجديد لمن يلتزمون بالكتابة في هذا المنحى ولا ما هو الخطر الذي تنبه إليه الجاحظ حينما استشرت تلك العداوات بين ما كان للعرب من فضل وسبق نافح وناضل عنه وجند ما استطاع في سبيله ومن أجله. وبين ما قالوه عن دعوتهم وبلوغ ما كان لأممهم من مخالفة في الحجة ومقارعة بالرأي.. المهم أن السياحة في تلك العوالم والمزيد من الإمعان في براريها هو الوقوع مع اللجاجة في أحبولة التأثيرات المهجنة شاء المفكر أم أبى.. حتى وإن كنا مع الجاحظ في أمثلته ودلالاته القاطعة ولا أظن إلا أن الجاحظ لو كان في ثوب هذا القرن وزي تأمله وقوة بخوره أو ما شئت من صلفه وسلاطة أهله؛ سوف يكتب عن فرق أخرى وأنموذجية لا تكتفي بالواقع ولا ترمز إلى الإحالة و لمجرد الاستدلال وإنما يعطينا من ذات العمق أجلى بنية لاكتمال تجربة تلك الحقبة بصورها وفعاليتها وصفة المفتاح السري من مئات الإشارات والجزئيات المتشكلة عن أكثر هذا الطوفان المستلقي في العالم العربي والمباشر في تأثيرات الفن.. بل لوجه الأصالة توجيه الرائد المتبوع ودفع من حركتها المتكاسلة البطيئة ما نرغبه من الفعالية والتكاتف مع الثقافات للمستقبل المدروس مع العلائق التوصلية في شرح القضايا لا بالتسليم والتسامح على حساب ما نختزنه من نظام أدبي وإنما بالنجاح وما تحتمه التجربة ويستلزمه التنفيذ بالإضافة، ومن هنا تحرشت بالجاحظ وتمنيت وأنا أقرأ للمرة الثانية أطروحة معاصرة حول الشعوبية بعنوان: (الشعوبية والأدب - أبعاد ومضمونات) تقدم بها الدكتور خليل جفال في الجامعة اليسوعية ببيروت لبنان نال بها درجته العلمية في اللغة العربية وآدابها.. وقد استضافته في حينها (أورنيت برس) ومما يلفت النظر قوله: (هناك فئات كانت تطمح إلى تدمير الذات العربية والارتقاء عليها)، وقال: (إن الشعوبية وهي تنادي بالزندقة والبدع والتبشير باللهو والفسق قد حاولت أن تنال من الدين الإسلامي ولكنه المنتصر).. وهذا شيء واقعي وملموس. لكن الأهم ما وصف به علامة العرب ابن خلدون حيث قال إنه ليس بعربي وبرر لذلك بما كتبه في المقدمة وما أطلقه من أحكام مجحفة بحق العرب سواء في الولاية أو في الانقياد أو الخراب للأوطان عند ولايتهم لها أو الخروج وعدم انضباطهم سياسياً أو طريقتهم في الغزو أو الترحال وما شابه هذه الأمور من اعتبارات وتحامل على الشعب العربي.. ولكن مراجعة المقدمة غير ما تبناه الدكتور وإن ذكر ما قاله فإنما لكل نتيجة سبب وهو رجل وضع مقدمة تنبئ عن حالة ما يحاول أن يبسط للقول ولأنه مؤرخ بتعامل مع الخبر والذكر ولا يبحث عن الإطراء لذات المعاملة به وإنما يقول بالمجمل ويستقرئ بالحقيقة التي يعرفها فلو كان البحث لا يشيد إلا بالمحامد ولا ينشد إلا الفضيلة والتطويب لما كان كما سماه مقدمة للتاريخ الذي قدم له ولا انتفى بالطبع من حقيقة عنوانه.. وابن خلدون كما يجمع المؤرخون عن سيرته هو عبدالرحمن بن محمد بن خلدون جده يمني من حضرموت أتى إلى الأندلس واستقر بإشبيلية ثم رحل مع أسرته إلى تونس وولد ابن خلدون فيها سنة 732هـ وفيها درس القرآن والحديث والعربية والعلوم العقلية والمنطق ثم سافر إلى مراكش ثم عاد إلى غرناطة سنة 764هـ وقد تنقل من وإلى حتى استقر به التطواف في القاهرة التي علم في أزهرها وكتب فيها كتبه الباقية وقد نظر رحمه الله في أعمال المؤرخين فوجد فيها كثيراً من الدسائس والخزعبلات والوضع.. ولذا فقد محص الأخبار واستبقى في غربلتها عن الكذب والأغلاط والترهات وقد كتب مقدمته في خمسة أشهر وفرغ منها سنة 779هـ وقال: (المؤرخ عليه أن يميز في الأخبار بين الممكن والمستحيل وبين الخطأ والصواب).. وهذا هو المنهج العلمي الذي أخذه عليه خليل جفال فهل هذا ينفي عروبة ابن خلدون؟!!

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة