Culture Magazine Monday  23/06/2008 G Issue 253
فضاءات
الأثنين 19 ,جمادى الثانية 1429   العدد  253
 

الشعراء العرب حين يلقون قصائدهم:
شعراء يحيون قصائدهم وآخرون يقتلونها
عبدالرحمن مجيد الربيعي

 

 

دار حديث بيني وبين صديق محب للشعر قراءة وحفظاً وإنصاتاً. وقادني الحديث إلى الشعراء العرب وإلقائهم لقصائدهم انطلاقاً من رأي له أن معظم الشعراء العرب يفشلون في إلقاء قصائدهم أمام الجمهور حيث يتمنى من حضر لو أنه لم يحضر.

وقد أيّدته في هذا ورحت أسترجع الأسماء التي سنحت في الظروف بالإنصات لها وما هو الانطباع الذي تركته لديّ.

أتذكر في البداية الشاعر والدبلوماسي السوري عمر أبو ريشة الذي كان يلقي قصيدته بفروسية وكبرياء ويحس من ينصت له أن بينه وبين الشاعر مسافة لكنها لا تقلل من احترامه له.

كما أتذكر سعيد عقل المليء بذاته حتى الجنون فهو ينفش كل حواسه، ويضخم صوته وينفخ صدره ويحرك يديه كثيراً. وكأن شعره الواقف يستكمل به انتفاخه. ولو لم يكن شِعره فاتناً لبدا لمن يستمع له مجرد ممثل بارع.

ويمكن أن أضم الشاعر عزيز أباظة إلى من أسلفت بقامته الطويلة وبشرته الحمراء رغم أنه شعرياً ليس بمستواهما. لكن قصيدته منضبطة، إيقاعية، ولا ننسى أنه صاحب قصيدة (يا منية النفس) التي غناها عبدالوهاب بأداء رائع، أضاف لها ما ليس فيها.

لكن صالح جودت أكثر براعة من عزيز أباظة في إيصال قصائده التي تبدو وكأنه كتبها من أجل أن تغنى لا أن تلقى فقط، أذكر منه حركة حاجبيه عند الإلقاء مثلاً.

أما محمود حسن إسماعيل وهو الشاعر الفذ الجميل فإن إلقاءه لقصائده باهت. يمر بها سريعاً فكأنه يؤدي واجباً فرض عليه. وعندما نقرأ ما ألقى منشورا سنكتشف كيف ظلم هذا الشاعر شعره عندما ألقاه بنفسه.

ومن الممكن القول إن خليل حاوي من الشعراء الذين لا يوصلون بإلقائهم قصائدهم، فهو يهدر بها وبلكنته الجبلية المعروفة. ولا يمكن معرفة أهمية ما ألقى إلا بعد قراءته.

وعلى النقيض من ادونيس الذي يمكن وصف إلقائه بأنه (بين بين). لقد استمتعت إليه مراراً لعل آخر مرة في تونس. وتأكد لي هذا. وربما مرد السبب لكمية المخفي في قصيدته، سواء ألقاها هو أو قرأناها منشورة.

وأعود إلى شعراء مصر وأتذكر أحمد رامي وأردد في سري: كم كان جميلاً ذلك الشاعر في شعره وأناقة إلقائه ودفء لهجته. ولثغة الراء التي تميزه وحجم الغنائية الرائعة في قصائده الفصحى والدارجة.

ومن بين شعراء مصر الذين يوفقون في إلقاء قصائدهم أحمد عبدالمعطي حجازي، وكذا الشأن مع فاروق شوشة وهو سيد (الميكروفون) وخبير الإلقاء من خلال عمله الإذاعي الطويل وصوته الهادر والهادئ في الآن نفسه.

لكن شعراء مميزين من طراز أمل دنقل ونجيب سرور ومحمد عفيفي مطر ومحمد إبراهيم أبو سنّة يفضل المرء قراءة قصائدهم رغم أنهم يمتلكون الحضور البهي أمام (الميكروفون) حيث الجمهور المحب لهم ولشعرهم. وأذكر قبل سنوات أقيم في بيروت حفل تكريمي لأنسي الحاج بمناسبة صدور كتابه (كلمات) في ثلاثة أجزاء، وربما كانت تلك من بين المرات القليلة التي يقرأ فيها أنسي الحاج شعره وتسنى لي أن أكون حاضراً، ولكن أنسي الحاج كان ذكياً وهو يعرف إمكاناته في الإلقاء لذا أعتمد على عدد من الإذاعيين المعروفين بينهم مها بيرقدار (شاعرة وإذاعية) وقرينة الشاعر يوسف الخال، وبإخراج مسرحي لجوزيف أبو نصّار (زوج ابنة أنسي) في مسرحة عدد من قصائد الشاعر الذي كان صوتاً واحداً بين عدة أصوات قرأت في تلك الأمسية الرائعة.

أذكر أيضاً من الشعراء السوريين ممدوح عدوان الذي كان يملك كارزما الشاعر والممثل معاً، لاسيما وأن هيئته وصوته وعمق قصيدته وشفافيتها قريبة من قلب المنصت. وقد منحه الله شعراً ناعماً ينسكب على جبينه فيداريه بأصابعه ولا نجده بين الشعراء إلا عند محمود درويش. وبهذا الشعر يستكمل المشهد.

ونتذكر من سوريا كذلك الشاعر علي الجندي فهو أيضاً من الشعراء الذين تتألق قصائدهم عندما يلقونها بحفاوة واعتداد.

وعندما نراجع المدونة الثرية لشعراء العراق والحافلة بالأسماء المهمة سنجد أن نسبة كبيرة من الشعراء يوصلون قصائدهم ولكن ليس بتألق. أذكر هنا فاضل العزاوي وحميد سعيد، وسامي مهدي وعلي جعفر العلاق مثلاً من جيل الستينيات وبمقابلهم شعراء أمثال حسب الشيخ جعفر الذي لا يوصل قصيدته رغم حميميتها لأن صوته لا يسعفه مطلقاً.

وهو الشيء نفسه الذي جعل شعراء رواداً كباراً يحققون في إلقاء قصائدهم أمثال البياتي والملائكة والسياب وبلند الحيدري وإلى حد ما سعدي يوسف ولكن التألق كل التألق من نصيب محمد مهدي الجواهري الفذّ في إلقائه. وكذا عبدالرزاق عبدالواحد سيّد الإلقاء، وينضاف إليهما الشاعر يوسف الصايغ فرغم أن قصيدته لا تبدو صالحة للإلقاء إلا إنه يوظف دراميتها في إلقاء مسرح يطوّع له صوته، فيوصل ما يريد ولذا لم نستغرب أن ينجز الصايغ عدداً من المسرحيات المميزة في تاريخ المسرح العراقي.

وبين أهم الشعراء العرب الذين يمتلكون الحضور النادر محمد الفيتوري الذي يتحول كله إلى صوت، يدوي أو يدق، يتأنى أو يسرع. وهو بهيئته المعروفة، البشرة السمراء، والعينان اللامعتان، وقوة القصيدة حيث تتشكل كاريزما الشاعر، الممثل في تعانق لا نجده إلا عند شاعر عربي آخر هو محمود درويش الأبرز والأقدر على إلقاء قصيدته بين الشعراء العرب المعاصرين.

لقد استمعت إليه مراراً وفي عدد من العواصم العربية فأجده مؤكداً لتألقه وقوة حضوره وقد تولد لدي رأي بأن درويش لا يفكر بقصيدته كيف تكتب فقط ولكن وكيف تلقى أيضاً. ومهما نأى عنه المستمع - القارئ سرعان ما يعيده إليه بتلك الأبيات المقفّاة التي لا تخاطب الأذن العربية بل والقلب العربي أيضاً. ولذا أصبح له جمهور من فئات عمرية وثقافية مختلفة. كما يصبح شاعراً متفقاً عليه. وإن كان المختلفون حوله قلة.

هنا قادنا الحديث صاحبي وأنا في جلستنا تلك إلى أن منجز الشعراء الكبار بحاجة إلى إعادة الألق له، وذلك بمسرحة النصوص الكبيرة منه، ولدينا مسرحيون لهم القدرة على اكتشاف الثراء الدرامي للشعر العربي. لاسيما وأن بعض الشعراء لم تُسجل أصواتهم ولا يدري المرء مثلاً كيف كان يلقي أبو القاسم الشابي قصائده ولم يترك السياب إلا تسجيلاً لإحدى قصائده قامت وزارة الثقافة العراقية في السبعينيات بطبعه على شريط كاسيت وتوزيعه.

ثم تذكرنا بأننا لم نتحدث عن نزار قباني لأنه الشاعر الوحيد الذي برزت قصائده في إلقائه لها. أو في قراءتها بين صفحات دواوينه أو مغناة بأصوات المطربين. كما أنه الشاعر الحاضر وكأنه محرر في عدد من الصحف العربية اليومية التي تعيد نشر قصائده دون كلل أو ملل كما يقال. وقد تكون لحديثنا هذا بقية في مناسبة أخرى.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7902»ثم أرسلها إلى الكود 82244

- تونس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة