إعداد : محمد المنيف
لم يعد هناك شك بأن الساحة التشكيلية السعودية قد تعدت مرحلة التأسيس إلى مرحلة المنافسة من خلال روادها المبدعين والمؤسسين لها بأساليبهم الفنية وبمساهمات الأجيال الجديدة المتمكنة من قدراتها المدعمة بالموهبة الحقيقية الفاعلة في التعريف بها للجمهور عبر معارضهم الفردية أو بمشاركاتهم في المعارض الجماعية.
هذه المرحلة لم تعد وتراً منفرداً بقدر ما أصبحت الساحة جوقة موسيقية تعددت فيها الآلات والعازفون، ومن هنا يمكن لنا أن نتعرف على الأصوات النشاز من بين تلك المجموعات، فالساحة اليوم وبهذا الزخم الكبير من الأسماء تستحق إعادة النظر بين حين وآخر لفرز الصالح ودعم ما يرجى صلاحه وإبعاد من لا قيمة له أو أثر أو تأثير على مستقبلها. ويمكن لنا أن نصنف الساحة على ثلاث فئات، الفئة الأولى المبدعة المتجددة الباحثة عن تطوير الذات، وفئة أخرى لا زالت تدور حول نفسها، أما الفئة الثالثة فهي الدخيلة على الساحة بالهواية وليست موهبة.
باحت عن تطوير الذات
فالفئة الباحثة عن تطوير الذات هي التي بنت علاقتها بصدق مع إبداعها منذ أن تعرفت على موهبتها وتعاملت مع أدواتها وبحثت عن مصادر الثقافة فيها ابتداء من مراحل دراستها الأولى في مجال التخصص، واعني بهم من تلقوا تعليماً أكاديمياً في هذا المجال دون إخفاق لحق من أبدعوا دون تخصص فيه واستطاعوا تعويض الدراسة المتخصصة بتلقي التجارب ممن سبقوهم من الفنانين أصحاب القدرات العالية والثقافة الواسعة المطلعة على فنون العالم وصاحبة الخبرات المرنة التعامل القابلة للتطوير. هذه الفئة نراها في كل مرحلة من المراحل التي يتحرك فيها الفن نحو البحث عن الجديد، وهي السمة الحقيقية التي لا يمكن أن يصبح العمل الفني إبداعاً بدونها لتنقله من حال الرتابة إلى الديناميكية فكراً وتنفيذاً ليصبح الإبداع عنواناً لمستوى وعي كل عصر يعيش فيه الفنان.
لقد شهدت الساحة الكثير من هذه النماذج التي استطاعت أن تجمع بين مستلهمات المشهد المحلي المرئي والمسموع البيئة والموروث الثقافي (الملسون) الروايات والقصص والقصيدة ليجعل منها مادة لإبداعه أعادت صياغتها بأسلوب معاصر في نمط التنفيذ.
دائر حول نفسه
أما الفئة الثانية، فالمنتمون إليها لا زالوا يبحثون عن مخرج من الدوران في نطاق تجاربهم السابقة من خلال عرض الكثير من أعمالهم الفنية القديمة في المعارض التي يشاركون بها لعدم قدرتهم على إقامة معرض جديد نتيجة قصور إمكانياتهم وتوقفها عند حدود السابق الذي لا يتعدى الأعمال التسجيلية التي استهلت من قبل الكثير من الفنانين في بداية انطلاقة الساحة التشكيلية وانتهجت أسلوب تسجيل الواقع من خلال المدارس المعروفة كالكلاسيكية والتأثيرية والانطباعية، تجاوزها الكثير واستبدلوها بما يتوافق مع التحرك السريع في حركات الفن التشكيلي المعاصرة، التي اكتسبوا سبل التعامل معها من خلال اطلاعهم على جديد العالم والاستفادة منه دون الإخلال بالخصوصية. من جانب آخر سار المتعاملون مع التقنيات وأدوات التعبير التشكيلية الأخرى كالنحت او تشكيل المعادن على نفس الموال إلا القلة التي تحاول تجاوز التكرار والوقوف عند حدود ما تسمح به قدراتهم في التحكم بآلات الخدش او الحذف وسبل التلميع، دون الانغماس في الفكرة وتوظيف الخامة للتعبير عنها.
الدخلاء على الساحة
أما الفئة الثالثة في الساحة المحلية وهم الغالبية، فهؤلاء يتعاملون مع الفن من منطلق الهواية ومحاولة اكتساب المهارات، لعل وعسى أن يقدموا شيئاً يستحق الثناء ليحرضهم على الاستمرار والوصول إلى أقل حالات الأداء الكربوني لأعمال غيرهم دون القدرة على الابتكار. لهذا تجدهم يتبعون كل جديد في الساحة ويمارسون الفن من خلال ابتدائهم من حيث انتهى الآخرين دون سابق معرفة أو تجريب فيتنقلون من أسلوب إلى آخر ومن تجربة إلى أخرى تنتهي علاقتهم بها مع نهاية مشاركتهم في أي معرض. كما أن من هؤلاء الهواة في الفن من يتعامل مع العمل الفني من منطلق التسلية وإثبات القدرة الآلية عبر نمط حرفي (من الحرفة) لا يتعدى حدود الشكل دون الولوج للمضمون. ومع أن الطريق الذي سلكه هؤلاء لا يمكن أن يكون آمناً، إلا أن فيهم من استطاع أن يتمسك بشيء من التجارب والمهارة وخرجوا بجديد رغم قلة عددهم. أما الدخلاء فلا نعلم أي طريق يسلكون وهل وجودهم في الساحة مجرد بحث عن ما يملأ النقص في الذات بالاقتراب من الأضواء مع جهلهم بما هم عليه، فهم يلوون ذراع توقعاتهم وأصبحت أصواتهم المعارضة لكل جديد أو رأي أو نقد أعلى من أصوات أهل التجارب والأساليب الحقيقية المعترف بها الذين يمتلكون الثقة الكبيرة في منتجهم ويتقبلون الرأي مهما صغر ومهما كان مصدره.
رقي ذائقة الساحة.. الحكم
في الفترة الأخيرة التي تعيشها الفنون التشكيلية وما أصبحت عليه من تزايد في مستوى الذائقة الراقية العارفة بحقيقة العمل الفني الجيد من عكسه المتتبعة لتاريخ ومسيرة كل فنان على الساحة أصبحت كالغربال الذي ينقي صافي الحبوب من القش، فهؤلاء لا يعيرون العمل السطحي اهتماماً ولا يلقون له بالاً ويبحثون عن العمل العائد من أتون خبرات وتجارب طويلة جمع فيها أصحابها بين الموهبة الحقيقية المدعمة بالثقافة والوعي وتقدير نظرة المتلقي في زمن تكاثرت فيه المسميات وأصبح بإمكان أي عامل نظافة أن يجمع ما يقع بين يديه ويضعه في المعرض متظللاً باسم المفاهيمية أو الفراغية نتيجة قصور فهمه لها وتوقعه أن أي عمل عبثي قائم على الصدفة بإمكانه أن يجعل منه فناناً مثل غيره.
نختتم القول أن تعدد وتنوع واختلاف المفاهيم يعد ظاهرة صحية ستكون لها الساحة أرضاً خصبة للنبات المثمر بإذن الله.