أثناء العرض وبعده كنت أتذكر مقولة لأحد الشعراء الفرنسيين عن قصائد فيكتور هوجو بعد تحوله إلى الشعرية الرومانسية المسكونة بهاجس التجريب والتجديد حينها. كان يقول: (إن هذا الشاعر الشاب ما كان يلقي قصيدة جديدة حتى تدهشنا وتقطع حبال الكلام في حناجرنا وكأنها الحجر يقع على بيت النمل!
كلمات محمد لم تك أحجاراً، بل أوتاراً أخرى كنا نحسبها تنشأ فينا وتغنينا.. كانت أصوات الناي العالي توقظ فينا الأسماء المدفونة لتحيينا. والصورة كانت معنا.. حتى إذ غادرنا القاعة كانت في صحبتنا تغري كلا منا كي يبحث في دمه عن عمر يتشظى، لحظات هي أجمل ما فيه وأبقى ما فينا).
هذه الكلمات العذبة التي ختم بها الدكتور معجب الزهراني مقالته (القصيدة) في صحيفة الرياض بعد حضور عرض شعري في نادي جيزان الأدبي هي أبلغ من أي كلمات إنشائية قد أكتبها عن هذه التجربة الرائعة وعن هذا الشاعر المبدع.
فقد خرج علينا الشاعر محمد حبيبي قبل عام تقريباً من جيزان يحمل بيده مئات السنين وآلاف الحكايات المضغوطة في (DVD).. أرادها شهرزاد الجميلة أرادها أن تحكي وتحكي وتحكي وتغني ل (ضمد).
قيل إنه (شعر مرئي) وقيل إنه (فيلم شعري) وقيل إنه (شعر متحرك) وقيل إنه (كليب شعري) وقيل إنه أشياء كثيرة، أما أنا فقد وجدته (رواية) ناطقة كتبت بطريقة مبتكرة. وتحدثت بكل بساطة عن الطين وعن التربة عن المحراث والمطر والحصير عن العريش والفانوس عن الحناء على الأكف الجميلة عن المكحلة عن الذكريات الملتصقة بالجدران العتيقة عن الحارة عن الطيبة عن الجمال المفقود عن الصدق عن التلقائية، عن حكايات الجدات، عن البسطاء.. هي تتحدث بهيام العاشق المجنون عن (القرية).
وبحضن دافئ يتلقفك ناي (دعشوش حسن) وصوت ينساب أحن من صوت الأم يقول لك احترس هذا (المكان به غواية) من يدخلة لن يخرج منه أبداً.
المشاهد لا تعطيك مهلة لالتقاط أنفاسك فكل مشهد يأتي أجمل من مشهد وكل جمال يأتي محملاً بحكاية.. فتاتان في حقل من يشاهدهما مرة سيعود لمشاهدتهما ألف مرة وكوخ من طين يقف أمامه جبل أسمر وظهر امرأة أزرق تتكئ عليها الحياة ويد رجل تتمسك بها الحبال و...... و يتساقط صوت (محمد حبيبي) من أعلى.. يأتي كحبيبات المطر العذبة يخبر عن بعض أساطير القرية:
(بقرنينِ يحمل جوهرةً لمعتْ مثل نجم وحيدٍ
يطوف ليالي الخبوت بإكليله ملكٌ
توَّجتْه أساطيرُ تنبتُ أجنحة للزواحف ثم تطيِّرها..
من يمسكُ بالثعبان الأقرنِ نالَ الجوهرةَ المبروكَه)
(من يشرب من أول سيل الوادي شاعر)
(النّبَّاشُ لا يظهر إلا بحياة الأفذاذْ،
ومخالبهُ لا يغرسها بقبور الدهماء)
(من يتسمّى باسم أبيهِ، لا يخطفه الموت صغيرا)
(لا يطرف رمشُ خَتينٍ في ميدان إلا لجبان)
(من تُدفن سُرَّتُه في الحقلْ، سيظلُّ عشيقاً للأرض)
****
من مراعي الطفولة في الوادِي من فضّ رمْلاتهِ، بين غابةِ أثْلاتهِِ والعُشَرْ.. خلف سدّ التراب زبيرٌ من الذكريات، عريشُ محبينَ فانوسهمْ وبقايا سهرْ.. قربها قلعةٌ طمرتها السيولُ نهبْنا أجرَّاتها وقت نرجم أجسادنا بالقُهَرْ.. قلتُ: أغرف من رملة الوادِ مداًّ يقرّ الفؤاد بليل اغترابيَ، لكن (من يسرق الرمل من أرضه ثم ينثره في البلاد البعيدة يغوى الطريق إلى قريته)
****
يا وجهَ فاتنتي صبٌّ ومرتعَدُ
ضجَّ الهوى بفؤادٍ جُرْحُهُ ضَمَدُ
لو أنَّ آسرتي قاضَتْ محبَّتَها
لكان في الظلم عدلٌ والجفاءُ يدُ
يا أولَ الحبِّ مجنونٌ به لوَثٌ
زارٌ من الوجد، في الجنبين يتَّقدُ
ماذا أسميكِ!! في عينيَّ نافرةً
كمهرةِ الريحِ؟!! لا سرجٌ ولا وتدُ
****
دعشوشُ فاكهةُ الذكرياتِ المطيرةِ، أرديةٌ لحقولٍ نمتْ من حليبِ الصواربِ، واكْتَشَحَتْ في استدارة رمّانةِ العَزَبَاتْ..
لأصابعَ مصقولةٍ ناشجتها المزاميرُ ينسابُ لحنُ المطرّقْ:
دمعي في نحتي ما تشعَّبْ بحرفهْ
ولَّبْتَ روحي بَسَّ ضِ-مدي مكسّرْ
اقرا وخطي ماتْ شعَّبْ بُهْ حرفهْ
ارجمْ بنفسي فْسُبَّ ضَمدي مكسَّرْ
آه من لي ب(نخلانَ) ب(البركِ)، بالأثَلاتِِ بغربيِّ (واسطْ).. بنا ما فعلتْ؟! بانسداحِ القلوبِ على الرمل مجلوّةَ الزقزقاتِ تَقَافَزُ حبَّاتُها، وهي مجذوبةٌ
من صفيرِ الحنايا:
(شربتْ من (ذهبانْ) (ذهبانْ) حالي
وعادْ مايِ (البرْكْ) ما منْ حلا بهْ
في حبكم يا لبيض، ذهبانْ حالي
وعادْ مايِ البرْكْ ما منْ حلا بهْ)
***
وسأتوقف هنا ليس لأن مساحتي في (الثقافية) صغيرة بل لأن صحف العالم كلها لن تستوعب الحديث عن تفاصيل نهر الجمال الذي صبه محمد حبيبي في عمله، لذا سأختم مقالتي بطلب أو بأمنية أتطلع بكل أمل أن يحققها لي (محمد) وهي أن أرى هذه الرواية (الفيلم) في المحافل الثقافية الخارجية وأول محفل سأحرص على حضوره لمشاهدة (غواية المكان) هو بينالي الشارقة الدولي للفنون 2008م.
فهل؟!
أتمنى.