ليس في الشعر العامي ما يحسب على أنه محاربة للغة الأم كما يذهب إلى ذلك البعض فهذا الشعر وإن كانت لغته غير سليمة فله قيمته من حيث كونه مرآة صافية لحياة أبناء الجزيرة العربية فيما مضى وهو قريب الشبه بالشعر الجاهلي والإسلامي القديم في موضوعاته ومعانيه وأساليبه. وفي زمننا هذا فإن من ينظمون الشعر باللسان العامي هم أصحاب ملكة وموهبة شعرية لا يمكن لأحد أن يتصدى لها أو يقف في وجهها أو ينكر على صاحبها أن يتحدث عن مشاعره شعراً، وكثير من المراكز العلمية في أنحاء مختلفة من العالم تتبنى العديد من الدراسات الاجتماعية والتاريخية التي تستفيد من الأدب العامي وما تختزنه الذاكرة الشعبية.
وهذا يعتبر عدم إنكار للأدب العامي بل تأكيد على أن دوره ضروري ولازم في نواحٍ عدة من القضايا المعرفية، وإذا كنا نرى تقصيراً في دراسة الأدب العامي والشعر منه على وجه الخصوص في بعض المراكز الثقافية عندنا، فإنني أؤكد على أن الدراسات الموضوعية لهذا اللون من ألوان الأدب إذا تمت فهي دليل على سعة الأفق وتقدير لأهمية العلم الذي لا يقف عند حد معين، وتأثر الشعر العامي بأوضاع المجتمعات الحالية أمر طبيعي ولا غرابة في أن نلمس أثر الحياة المعاشة والتطور الذي يشهده عصرنا الحالي فيما ينظمه الشعراء من القصائد.
إن غلبة الإقليمية على الشعر العامي بحكم لهجته المحلية أمر لا ننكره لكن بعض هذا الشعر ليس إقليمياً في أهدافه ومراميه وإن كانت لهجته محلية فهو يعالج المشكلات العامة ويطرق الأغراض التي يطرقها الشعر الفصيح وفي هذا الأغراض ما هو بعيد عن الإقليمية. ومن هنا يرتفع الشعر العامي عن الإقليمية والذين ينظرون إلى الشعر العامي نظرة دونية لا يقدرون فيه أن انحراف اللسان عن الفصحى ليس مدعاة إلى احتقاره، فالشاعر العامي شاعر موهبة وملكة وتعبيره قوي مبدع، وتناوله للموضوعات لا يختلف عن تناول الشعر الفصيح لها ومما يلاحظ هو سرعة الشعر العامي في الوصول إلى المتلقي وهذا يأتي بالطبع من قربه من حديث الحياة المعاشة اليومية، فهو ينطق بلسان المجتمع المعتاد ولذا يسهل وصوله إلى النفوس دون عناء كد الذهن الذي يحتاجه الفصيح، والحضور الجماهيري الكثيف في أمسيات الشعر العامي مرده إلى سرعة فهمه وتذوقه وهذا بالطبع لا يقلل من أهمية الشعر العربي الفصيح، فلهذا الشعر متذوقوه ومتابعوه أما كثرة المطبوعات التي تُعنَى بالشعر العامي فعلاوة على أن لهذا اللون من الأدب مريدين وأتباعاً وأحباباً فلها مقاصد أخرى منها الربح المادي من خلال نشر هذا الشعر وفيه الجيد والرديء، وفيه صاحب الموهبة الحقة وفيه غير ذلك.
إذا كانت الأندية الأدبية تهتم بالدرجة الأولى بالشعر العربي الفصيح ونشره وتبني المواهب الناشئة التي تستطيع أن تقيم الوزن والقافية بنحو اللغة العربية وصرفها وبيانها وبلاغتها، وتسعى إلى نشر كتب الإبداع المختلفة في إطار المحافظة على العربية الفصحى، فإن الدراسات التي تفيد من الشعر العامي لا يمكن للأندية أن تقفل الباب في وجه أصحابها لما للشعر العامي من فوائد جمة في خدمة كثير من الدراسات العلمية إن في الاجتماع أو الأدب أو التاريخ كما تقدم.
من خصوصية الشعر العامي وهذا ما لم أره فيما اطلعت عليه من الشعر العربي القديم سوى أبيات معدودة لعلقمة الفحل وامرئ القيس أن لبعض شعراء العامية قدرة على الارتجال فيما يعرف بشعر الرد أو المحاورات الشعرية والمحاورة شعر مرتجل يتبارز فيه الخصمان ويسيران على مبدأ الألغاز والإيهام لفك رموز المعاني فيما يعرف بشعر الرد أو القلطة المعتمد على الموهبة التي تنمو بالمران وارتياد ملاعب الشعراء للدربة على الرمزية الغامضة التي يلجأ إليها شاعر الرد لإفحام الخصم الذي لا يدري أهو ينظم البيت المستقيم وزناً وقافيةً على شاكلة بيت خصمه أو هو ينشغل بفهم المعنى ليجيب خصمه وفقاً للهدف الذي رسمه له وألغز به بتعمية شديدة يحار فكره بها، فشعر المحاورة شعر ارتجالي قلَّ أن يتوفر لكل شاعر من شعراء النظم وشاعر المحاورة يعتمد على حضور البديهة وقوة العارضة وهو رمزي الدلالة لا بد للشاعر من أن يعرف مرامي خصمه ويجاريه في معناه وإلا فإن المحاورة تفقد قيمتها والمعنى وإن كان يخفى على غالبية حضور المحاورة، فإنه مفهوم لدى المتحاورين وإذا قصر أحدهما في أن يجاري خصمه في معناه فهو دليل على ضعفه إلا أن يكون الشاعر الذي (رسم الهدف) قد بالغ في التعمية والإيهام للتعجيز فحينئذ يكون الشاعر الآخر معذوراً في عدم مسايرة زميله في معناه.
شعر المحاورة الذي يسمونه قديماً (القرح) لاعتماده على القريحة الارتجالية تبرز فيه القدرة على النظم الشعري العاجل الذي يراعي الوزن والقافية وهو شعر مغنى على لحن معين يحدده الشاعر الذي يبدأ بالمحاورة، فإذا اختل وزنه سقط لأول وهلة لأنه لا يستقيم بالغناء وتبرز فيه القدرة على فك الرموز التي يأتي بها الخصم في وقت قصير جداً.
........................ انتهت