يتساءل الدكتور عبدالله الغذامي في مقال أخير بعنوان: (الأدونيسية التي (النسقية التي) لا تنتهي)، (صحيفة الرياض الخميس 10 يناير 2008م العدد 14444): ماذا لو صار أدونيس زعيماً عربياً؟
ويخلص إلى تقرير نتيجة مفادها أن أدونيس سوف يصبح (طاغية).
وقد وصف الدكتور عبدالله الغذامي المشروع الشعري والنقدي الأدونيسي بجملة من الأوصاف والسمات التي يمكن لأول وهلة نفيها خارج إطار العلمية والمنهجية.
فأدونيس عند الغذامي مجرد لعبة أدونيسية، و(هي ليست سوى نسق ثقافي توسل بلغة خداعة في حين تبني كل العناصر الثقافية).. فمن يا ترى خدعهم أدونيس من الشعراء أم النقاد؟ هل هم جيل الستينيات الشعري أم جيل السبعينيات الذين حملوا مبدأ التجديد والتجريب الشعري الذي طور الشعرية العربية، ونقلها من حالتها الرومانسية والغنائية والفردية الهشة إلى تشكيل بنى درامية وتصويرية مدهشة مترعة بالتنوع والثراء؟ أم خدع أجيال قصيدة النثر - في نماذجها العليا - التي استندت كثيراً على المقولات الشعرية الأدونيسية؟
إنني أستغرب أن يجعل الدكتور الغذامي من المثقفين (ضحية) في هذا التعبير: (في هذا النوع من الأنساق المضمرة تكون اللحظات الثقافية الحساسة والخطرة، فهي من جهة تهيئ جواً نفسياً لدى شرائح من المثقفين بحيث يقعون ضحية لهذا النوع من الأنساق). وهذا التعبير قدح في المثقفين، الذين هم ليسوا من السذاجة الثقافية ليقعوا ضحية تحت خطاب ثقافي ما أو نسق ثقافي ما، ولا ينتظرون من يبين لهم طرق الهداية والرشاد الثقافية.
إنني كقارئ على الأقل أرفض هذا التأويل الغذامي عن أدونيس: لقد تجاوز الماضي إلى ما هو أكثر مضياً، وتمرد على التقليد إلى ما هو أعرق تقليدية.. إنني حين أقرأ (المسرح والمرايا) أو (قبر من أجل نيويورك) أو (مقدمة لملوك الطوائف) أو (أبجدية ثانية) لا أجد هذا الماضي ولا هذا التقليد، بل أجد قصائد حداثية جديدة موغلة في تجريبيتها.
أما ما ذكره الدكتور الغذامي عن الأنا الشعرية، أو فهم النص الشعري، والفحولة فهي ميزات شعرية لا عيوب، والإعلاء من شأن الأنا الشعرية إعلاء من قيمة فن الشعر ذاته الذي لا يتوجه لمستوى واحد من الناس أو القراء بل لمستويات متعددة، ومستويات من التلقي مختلفة، ومتنوعة، ويبقي على تواصله مع كل هذه المستويات، وهذا سر جماله وجلاله معاً.
إن القصيدة الأدونيسية تنهض على فعل تجريبي. التجريب المتواصل هو هدف جوهري في الكتابة الأدونيسية، وهو عمل فني أساسي في التوجه الشعري الحداثي، حتى لو استثمر التراث في عملية الإبداع الفني، كما فعل التحول والخلق والابتكار والتجديد هو ما يقوم عليه الفضاء الشعري لدى أدونيس منذ أعماله الأولى:
جدد بي الكون فأجفانه
تلبس أجفاني
جدد بي الكون بحريتي
فأينا يبتكر الثاني
لقد شهدت مسيرة أدونيس الشعرية والنقدية جملة من التحولات، ولنلحظ أن لأدونيس عناوين إبداعية عن التحولات: (كتاب التحولات، والهجرة في أقاليم الليل والنهار). ومن هذه التحولات:
- الخروج من بنية القصيدة العمودية الغنائية إلى البنية الدرامية، ومنذ صدور: (أغاني مهيار الدمشقي) حتى (أبجدية ثانية) وكتاب (الكتاب) مروراً بالمسرح والمرايا، ومفرد بصيغة الجمع، والشعرية الأدونيسية في حراك دائب، لا يتوقف عند حد.
- قام أدونيس شعرياً وفنياً بتفجير اللغة الإبداعية، والوصول بها إلى غايات فنية وجمالية بعيدة لم يسبقه إليها أحد.
- أدونيس هو من أوائل من نظروا لقصيدة النثر، بل إنه المنظر الأول لها في مقالته التي باتت مصدراً نظرياً لهذه القصيدة التي نشرت بالعدد الرابع عشر من مجلة (شعر) في العام 1960م، ثم هو أول من بادر لنقد هذه القصيدة والوقوف عند سلبياتها.
- لأدونيس ابتكارات واكتشافات جلية في التراث العربي، فهو أول من استثمر الفضاء الصوفي شعرياً، وقرأ (النفري) وقدمه فنياً بشكل مدهش.
وهنا أسأل أستاذنا الحبيب الدكتور عبدالله الغذامي: إذا لم يكن أدونيس هو الحداثي الأول في عالم الشعرية العربية.. فمن يكون؟
إنني أعجب من وصف الدكتور عبدالله الغذامي لاسم (أدونيس) بأنه اسم صنم، علماً بأن الدكتور الغذامي في جل دراساته الأخيرة يعتمد المجاز والتأويل، ويذهب للمعاني العميقة كما في مشروعه عن (المرأة واللغة) على سبيل التمثيل، وهو يدرك أن التسمية هنا لا تعني الصنمية بالضرورة، بل تعني ما ترمز إليه التسمية من فعل الخصب، والنماء، والعودة في الربيع كما تذكر أسطورة أدونيس. ونحن لو وافقنا الدكتور الغذامي على هذا التأويل الصنمي، لقلنا إن صخر، وعبد العزى، وعبد مناة، وكلب، وكليب، والجمل، والأسد، وذؤيب، أسماء تعني بشكل مباشر الصنمية أو الحيوانية.
إنه لا يمكن أن نجافي الحقيقة تحت أي ادعاء أو زعم أو مقولة، لنقرر هكذا أن أدونيس رجعي، وأن كتاباته وشخصيته تعبر عن ديكتاتورية فنية، أو أنه شخصية تتجلى فيها سمات الطاغية، فلأدونيس إنجازه الفني الكبير الذي لا يمكن لأي شخص نكرانه، بيد أنني أؤكد في هذا المقام أنه لا يوجد مبدع أو كاتب فوق مستوى النقد، حتى الدكتور الغذامي نفسه.
أنا لا أدافع هنا عن أدونيس، ولا أهاجم أستاذنا الحبيب الدكتور عبدالله الغذامي، بل أقرر حقيقة أدبية وثقافية واقعة.
إن أدونيس هو الرمز الثقافي والإبداعي الأول للحداثة في أدبنا العربي المعاصر، وهو من أبرز دعاة تحديث الشعرية العربية، ومثل كتابه: (الثابت والمتحول) نقلة فكرية وأدبية كبيرة في التحول صوب الحداثة. إن كل الدراسات، وأؤكد هنا كل الدراسات الأكاديمية والمنهجية ترتكز في توصيفها للحداثة العربية على كتابات أدونيس، فهو المصدر والمرجع الذي لا يمكن تجاهله في أية دراسة منهجية تتناول الحداثة العربية، سواء على مستوى ما كتبه من شعر، أو على مستوى ما قدمه من مفاهيم نظرية ونقدية وفكرية.
إنني أربأ بالدكتور الغذامي، وهو الذي يؤكد مراراً وتكراراً على قيمة المنهج، أن يجافي هذه الحقائق الأدبية والثقافية، وإنني أدعوه - بوصفي طالباً للعلم أو بوصفي قارئاً - ألا ينساق خلف هذه المقولات (الطاغية، الديكتاتور، الصنمية ... إلخ)، لأن توصيف منجز حداثي بهذا الشكل الذي طرحه في مقالته يثير نوعاً من المفارقة، كما أنها تجعل من كتاباتنا كتابات خارجة عن إطار المنهج، والفكر، والإبداع.
ولي هنا أن أشير إلى أن مسألة نهاية (الأدونيسية) وتواري المشروع الأدونيسي النظري عن الشعر ، خاصة مسألة الكونية، والاحتفاء بالقضايا الكبرى، وبتفجير اللغة، قد طرحت من قبل في القاهرة بدايات التسعينيات الميلادية، وقد كتب الشاعر مهاب نصر في بدايات التسعينيات مقالة مطولة نشرت بصحيفة الرياض (لا أذكر التاريخ بالضبط) بعنوان: (انكسار النموذج الأدونيسي).
لا نريد أن نشوه حياتنا الثقافية، وأن نتجنى على أفكار باتت من المسلمات، وأن نشوه منجزاتنا الثقافية بقضايا شخصية خلافية، وآمل ألا تأخذنا العزة بالنرجسية، وأن نكون سدنة للمنهج، وحراساً على جماليات لغتنا وإبداعها الشعري الجميل.