لطالما قام التفاضل في المنازل على مقاييس نفسيّة - اجتماعيّة أو إنسانيّة في المقام الأوّل، ولعلّ بعض الأحداث التاريخيّة التي انتقلت إلينا بالرواية أو التدوين، هي خير دليل على ذلك، ومنها ماروي عن ميسون بنت بحدل الكلبيّة، زوج معاوية بن أبي سفيان، التي انتقلت من بيت أهلها في البادية، لتعيش في قصر من قصور الخليفة في الشام، حيث افتقدت الأنس، والألفة، فقالت قصيدتها الشهيرة:
لبيتٌ تخفق الأرواح فيه
أحبّ إليّ من قصر منيف
ولبس عباءة، وتقرّ عيني
أحبّ إليّ من لبس الشفوف
تطوّرت حياة البشر، وتكاثروا، وتفتّحت إمكانيّات العقل والخيال، وتوسّعت اختيارات المنازل والبيوت، لاسيّما مع المدينة الحديثة المكتظّة، ومنها المدينة العربيّة، التي راح المرء يتخلّى فيها عن فكرة البيت المستقّل، إلى شقّة في عمارة، يفرضها عليه الوضع الاقتصاديّ، ويحثّه عليها تحوّل الأسرة العربيّة من أسرة ممتدّة إلى أخرى نوويّة.
يفترض أن يبحث المرء حينما يريد الحصول على بيت عن حصّته المناسبة في الهواء، والماء، والشمس، وعن القرب من الخدمات، وطرق المواصلات، وإذا امتلك وعياً أكثر، مع إمكانيّات الترف، التي تمليها قدرته الماديّة فإنّه سيبحث عن بيت مقاوم للكوارث الطبيعيّة، أو البشريّة، بنيّ ضدّ الزلازل مثلاً، وله مخارج للطوارئ..
لم أصدّق وأنا أبحث عن بيت، أنّ رهاباً من نوع جديد ما يسكنني، إذ كنت أراقب موقع البيوت بطريقة غريبة، أردت بيتاً بعيداً عن أيّة نقطة معرّضة لقصف محتمل، أو تفجير، فلا أريد بيتاً قريباً من خزّان مياه، أو صومعة حبوب، أو مخزن طعام للمدنيين، أو للعسكريين، أو مركز للاستخبارات، أو موقع تابع للجيش، أو دار للحكومة... أريد بيتاً قريباً من مدرسة تصلح ملجأ للمدنيين، أو من مستشفى يمكن الوصول إليه بسرعة في حالة إصابة ما... أعرف أنّ مثل هذا الأفكار ممعنة في التطرّف، لكن استقرارها في لا وعيي مؤشّر على نجاح النظام العربيّ في تحويل ذهنيّة المواطن إلى ذهنيّة أمنيّة متفوّقة، وهذا ما نبهني إليه سمسار العقارات، الذي قال: إنك تبحثين عن ملجأ، لا عن بيت! وفي حين يبحث مواطن في مثل موقعي، في السويد، أو بلجيكا، أو أمريكا عن بيت صديق للبيئة، بعيد عن مصادر التلوّث، أو الضجيج، أو عن مدار كهرطيسيّ ما، أو توتّر كهربائيّ مرتفع، فإنّ المواطن العربيّ الذي صار يجد الرفاه فيما يجده الآخرون من أولويّات الوجود، فحسبه بيت صديق للأمن!
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* مدرّس الأدب العربيّ الحديث والآداب العالميّة في جامعة حلب