شاع في الدراسات المسرحية استخدام مصطلحي: (المونولوج) و(المناجاة) للدلالة على مفهوم واحد: هو حديث الشخصية إلى نفسها بعيداً عن الآخرين. وبين الكلمتين فارق دقيق. فالمونولوج: (حديث مكتوب لشخصية واحدة فقط… (قد يأتي) على شكل صلاة أو ترتيلة، أو مناداة لغائب، أو رثاء، أو أغنية حب…إلخ)(1).
أما المناجاة فهي نوع من أنواع المونولوج تتحدد (عندما تفضي الشخصية بمكنونات قلبها على انفراد في لحظة من لحظات التطور المصيري الحاسم)(2).
وعلى هذا يسمَّى المونولوج مناجاة إذا عبر عن مشاعر متضاربة أو حيرة أو تردد، أي كان تجسيداً للصراع الداخلي. وانطلاقاً من هذا الفارق نلاحظ أن المسرحيات الشعرية العربية تفيض بالمونولوجات، ولكن حظ المناجاة منها ضئيل، فمعظم الوقفات الطويلة والأحاديث الفردية للشخصيات من قبيل المونولوج الغنائي لا المناجاة.
والمونولوج الغنائي من أخطر عيوب الحوار المسرحي لأنه انفصال باللغة الشعرية عن الموقف الدرامي. أما المناجاة فهي موقف درامي له غايته في تصوير الصراع النفسي. ولم تكن المناجاة تقليداً مسرحياً شائعاً في المسرحيات الشعرية، فهي لا تعتمد على المناجاة اعتماداً كبيراً في تصوير حيرة البطل على نحو ما عرف في مسرحيات شكسبير الذي يكثر من مواقف المناجاة في المسرحية. فالمناجاة محدودة، وهي في الغالب تنحصر في موقف واحد لا يتكرر في المسرحية.
ويمتاز محمد إبراهيم أبو سنة بإيثاره المناجاة إذ تتكرر عدة مرات لتجسد مراحل مختلفة من الصراع النفسي وتتابع نموه، ففي (حمزة العرب) يعتمد على المناجاة لتجسد صراع حمزة بين حبه لمهردكار وواجبه الوطني في محاربة الفرس.
وتشكل المناجيات حركة نفسية متعاقبة تقوم على الرفض ثم القبول ثم رفض فقبول، ففي المناجاة الأولى يعلو صوت حمزة العرب فيرفض المشاعر الدخيلة على قلبه وهو على مشارف مدينة المدائن، ويراها شاغلاً عن رسالته الوطنية، ثم يصل إلى قرار حاسم لا يلغي الحب الوليد ولكنه يؤجله حتى يعيد كرامة العرب:
حمزة (لنفسه): ترى قطعت هذه القفار
لكي تجيئني رسائل الهوى
من بنت ذلك الملك
من هذه العذراء مهردكار
في كل ليلة تجيئني رسالة المتيمة
فهل أتيت لكي أطارح امرأة
لواعج الغرام
وها هم العرب
كالقيد حول معصم المدائن
تهيئوا للفتح والغنيمة
وبعد ليلتين
تكون راية العرب
على بيوت هذه المدينة.
فها هي البلاد
تخر تحت سيفي الطويل
فالوقت ليس للهوى
الوقت للحراب والسهام
فلتنتظر لواعج الغرام
حتى تعود للعرب
كرامة أضاعها الطغاة والأتباع والخدم
لكنهم يروون عن كمالها
ما يعجز الكلام
وعلمها وفنها وذوقها
لكنني ما جئت ها هنا لأعشق النساء (3).
هنا يرى حمزة مهردكار بمنظار العقل لذا يطغى - في حواره - صوت العقل على العاطفة فتختفي لهجة التودد في حديثه عن مهردكار، فهي لا تمثل له أكثر من كونها بنت الملك، وامرأة متيَّمة، كما تختفي أيضاً ألفاظ الحيرة والتردد، وتسود المناجاة لغة حاسمة جادة تتكئ على أسلوب النفي لتأكيد دلالة الرفض: (الوقت ليس للهوى) و(ما جئت ها هنا لأعشق النساء).
وتتطور الأحداث، ويطمح حمزة في مصاهرة كسرى حقناً للدماء، وبينما ينتظر جواب كسرى، تأتي المناجاة الثانية لحمزة، وقد تحولت مشاعر الرفض للعاطفة إلى ما يشبه القبول. وبدت سهام الحب تغزو قلبه:
حمزة (يمتشق سيفه من غمده):
من ذا الذي قد حولك
من قاطع بتار
لغصن دوحة تلتف بالأزهار
يا سارق الأرواح من منازل البدن
من أين جاءك الوهن
تركت عسكر المحاربين
إلى كتائب المتيمين
من أجل مهردكار
تساوت المياه والنيران
قد جئت من جزيرة العرب
تسوق موكب الأحلام
لكي تنال العرش لا الغرام
من الذي قد غافلك
وأمسك الزمام من يديك
أهذه شواطئ العواطف المزمجرة
لولاك يا رسائل الحبيبة (يغير اللهجة)
ما طابت الأحلام للغريب
ما لذ لي الطعام والشراب
لأحرق الغضب
مدينة المدائن (4).
وهنا يخفت صوت العقل في المناجاة، ومن مظاهر هذا الخفوت إضراب حمزة عن مخاطبة ذاته (عقله) والأصل في المناجاة خطاب الذات للذات، ويتخذ حمزة من السيف مخاطباً ومحوراً ترتكز عليه المناجاة، ولا يبثه ما يعتمل وجدانه من خاطر جديد، بل يسقط واقعه النفسي على سيفه وينسب له التحول الخطير في عاطفته من حمزة العرب إلى حمزة المتيم، ويتكئ الحوار على أسلوب المفارقة، فتتجاور الجمل المتناقضة لتعكس التحولات العاطفية التي اعترت سيفه من: (قاطع بتار) إلى (غصن دوحة تلتف بالأزهار) ومن: (سارق الأرواح) إلى (جاءك الوهن) ومن (عسكر المحاربين) إلى كتائب المتيمين). ومن طلب (العرش) إلى (الغرام). ونلاحظ أن الألفاظ قبل التحول حادة وهي تترجم عن حال حمزة الشجاع المقدام، وحينما يخفت صوت العقل ويتحول إلى حمزة المتيم تهدأ الألفاظ وتلين الكلمات استجابة لنداء العاطفة. ومن مظاهر هذا التحول، وصفة لمهردكار بالحبيبة في هذا النداء (يا رسائل الحبيبة) بعد أن كانت في المناجاة الأولى: ابنه الملك، وامرأة كأي النساء.
وتتطور الأحداث وتنبثق من كسرى حيلة لمراوغة حمزة بتنصيبه ملكاً على العرب، وخلع النعمان مقابل تسليم مهردكار، وتأتي مناجاة حمزة الثالثة قمة الصراع الداخلي بين عاطفتي الحب والوفاء لمهردكار ومصالحة الفرس وحقن الدماء، ويتجاذبه في أعماقه صوتان صوت حمزة العرب وصوت حمزة المتيم، وينتصر في ختام المناجاة صوت حمزة العرب:
حمزة بقلق بالغ:
يا قسوة القرار
وها أنا أحار
وتوشك الأمواج أن تأكلني
من قبل أن تلوح لي ضفاف الاختيار
الملك والأمان
أم نار ذلك الوفاء
والذود عن حياض ذلك الهوى
والموت دون مهر دكار
(يشير بيديه كما لو كان يحدث أحدا)
لابد أن أختار
لابد أن أختار
هل أسلم الأميرة الحبيبة
وأحقن الدماء
أعود بالسلام للجزيرة
أم أقبل المخاطرة
فداء مهر دكار
من فضلت معسكر العرب
على جوار أهلها
ما أصعب القرار
لكنني لابد أن أختار
(يجلس ويتحدث بصوت هادئ):
هل جئت من بلادي البعيدة
من أجل ذلك الزواج؟
أم أنني أتيت كي أرد كيدهم
أحرر البلاد والعباد
من ظلمهم
والآن قد تحقق الذي أردت
على أن أرد نزوة الفؤاد
لكي تعود مهر دكار
لأهلها وبعدها ما أكثر النساء
لكنها حبيبة الفؤاد (يعود إلى الحنين)
فما هو القرار
وأين وجهه الصحيح..(صمت)
لابد أن تعود مهر دكار
وإنني قبلت ملك دولة العرب (5).
تتوتر اللغة في هذه المناجاة، وتتكئ على أسلوب الاستفهام الذي يعكس الحيرة والتردد والقلق، ويعبر عن حالة من حالات الاضطراب النفسي والتشوش الفكري وينهج الحوار أسلوباً منطقياً في التفكير من حيث طرح البدائل التي تنبئ عن تردد الشخصية وقلقها وعجزها عن الاختيار وفرض الحلول ومناقشة ما قد يلحقها من نتائج، وما يترتب عليها من تبعات. ثم محاولة اختيار الحل الأمثل وهو نهاية حاسمة لحيرة حمزة وخطوة عملية في اتخاذ القرار.
ولم تكن تلك المناجاة خاتمة الصراع النفسي برغم صراحة القرار الذي ارتآه حمزة، ولا كان من اليسير عليه التضحية بمهر دكار ومغالبة عواطفه، لذا نراه يعود للمناجاة مرة أخرى، وعلى نحو تطول فيه أكثر من سابقتها:
حمزة: (بغضب): كفى؟ كم جلدت بهذى الهواجس
فمنذ مضت بنت كسرى
ونفسي تقاذفها الموج والخوف والمستحيل
وها هو نجمي يميل
ليغرب في ساعة قاسية
وعقلي يحلق بين سدوف الظلام
وكم ذا طمحت إلى أن يزور عيوني المنام
فما إن أقرب مني الوسادة
تخر علي الجبال
ويصرخ صوت بعيد المنال
محال محال
قتلتُ السلام الهنيء
ذبحتُ طيور المنام
قد قتلتُ المنام
وأخمدتُ ضوء الفؤاد
... (6)
تضمنت هذه المناجاة الوصف الدقيق لعالم حمزة النفسي في اللحظة الراهنة، وأرقه بعد فراق مهردكار، وتتكاثف الاستعارات التشخيصية لإبانة هذا العالم، كقوله: (قتلتُ السلامَ)، (ذبحت طيورَ المنام) (قتلتُ المنامَ) و(أخمدتُ ضوء الفؤاد). وتتركب الجمل الاستعارية من أفعال ذات دلالة واحدة، فالقتل والذبح تدور في فلك البطش والفتك، ويزداد الشعور بالندم وتأنيب الضمير بإسناد هذه الأفعال إلى تاء الفاعل لتضخيم نسبة الأفعال المشينة إلى حمزة وصدورها بإرادته، وتتوحد دلالة المستعار مُناقضةً بشاعة الأفعال، فالسلام والمنام والفؤاد مفعول به لهذه الأفعال الدموية، وكأنها ضلت طريقها فاغتالت ما هو جدير بالنماء والرواء. وتنطوي هذه الاستعارات على مفارقة فحمزة العادل الشجاع من كان ينحر البغي يغتال الآن السلام.
وفي ختام المناجاة يعلو صوت حمزة المتيم، وتنتصر عاطفته دون أن تهزم عقله، انتصار القوي، الحر الإرادة، السليم التفكير، ويعزم على اللحاق بالقافلة واسترداد مهر دكار، ومعاودة قتال الفرس ودرء ما أفسده:
وماذا لو أني تبعت الأثر
وسرت أشق الصخور إلى القافلة
لألحقهم ثم آتي بها (7).
() د. نبيل راغب، بين المناجاة والمونولوج، مجلة الفيصل، العدد (100). شوال 1405م. تموز 1985م، ص75 .
(2) السابق.
(3) حمزة العرب، ص69 .
(4) السابق، ص86 .
(5) المصدر السابق، ص 113.
(6) السابق، ص131 .
(7) حمزة العرب، ص133.