كان لانضمام الصبية الجدد إلى المعمل طقوس لا تتغير. فقد تمرّ امرأة متشحة بالملاءة السوداء من أمام المعمل في زقاق معاوية، وهي تجرّ بيدها صبياً صغيراً لا يتجاوز عمره تسع سنوات، فإذا لمحتْ من وراء باب المعمل الزجاجي أن أبي موجود وراء مكتبه، دفعت الباب برفق شديد ودخلت على استحياء، وحيته وقالت له من وراء منديلها الأسود الذي يغطي وجهها بلهجة مترددة وخجولة: (عمي أبو معتز أنا من بيت (فلان) وهذا ابني يتيم الأب، حبذا لو تقبله في معملك ليتعلم الصنعة) فالمرأة تعرف أن أبا المعتز الذي هو وجيه الحي لا يرد لأحد طلباً، ولا سيما لمن كان معوزاً أومعيلاً، فيطلب أبي من الصبي أن يتقدم نحوه، ويسأله عن عمره وإلى أي صف وصل في دراسته، التي لم تعد أمه قادرة على نفقات الاستمرار فيها، ومتى اطمأن أبي إلى نباهة الصبي من أجوبته، وتوسّم فيه قابليته للتعلم، التفت إلى المرأة ليطمئنها، وطلب منها أن تترك الصبي، وتعود إلى بيتها لأن ابنها أصبح في رعايته، وأضحى واحداً من العاملين الجدد.
ولكن ثمة طقساً آخر لابد أن يجتازه الصبي ولكن هذه المرة على يد والدتي أم المعتز، وذلك حين يوعز أبي إلى أحد العمال ليصطحب القادم الجديد إلى بيتنا القريب ليسلمه إليها، ويعود أدراجه إلى المعمل دون أن ينبس بكلمة، فأمي كانت تعرف ماذا عليها أن تفعل. فهي سرعان ما تهيئ مياهاً ساخنة لاغتسال الصبي في الحمام، ومتى اطمأنت إلى نظافة شعره وبدنه وأظافره تقوم بتجفيفه، وتلبسه من بعض ملابسنا التي تكون على قياسه بدلاً من تلك الأسمال التي جاء بها. وكانت لا تنفك وهي تقوم بكل ذلك عن التحدث إليه، لتفهمه أنه مقبل على تعلم صنعة، أساسها نظافة الذين يعملون فيها.
وحين يترك الصبي البيت ليعود إلى المعمل نظيفاً مهفهفاً ينبعث منه عطر صابون الغار الذي اغتسل به، يتملكه الشعور بأنه أصبح منذ اليوم ليس عاملاً آخر ينضم إلى العمال الذين سبقوه بل ابناً جديداً لأبي المعتز وأم المعتز.
وكان لعمال المعمل هوايات فنية وفلكلورية متنوعة؛ فمحمود الجباصيني، النحيل الرشيق، كان يعشق التمثيل وكان لا يدع مسرحية شعبية تقدم على مسرح سينما النصر الملاصق لسوق الحميدية تفوته، وكان يحفظ حواراتها عن ظهر قلب، وإنني لأتذكره حتى اليوم كلما شاهدت فيلماً يؤديه الممثل (همفري بوغارت) فقد كان يشبهه إلى حد عجيب. أما محمد العرجاوي ذو القامة القصيرة والنظارات الطبية السميكة فكان صاحب صوت جميل حقاً، وكان يحسن أداء أغنيات محمد عبدالوهاب ومواويله القديمة، ولا يتوقف عن الترنم بها خلال قيامه بالأعمال المكلف بها، مما كان يسعد أقرانه، ويخفف عنهم عناء العمل، أما أحمد الطيان ذو القوام الربعة والآتي من حارة شعبية في حي الميدان فكان راوياً جيداً لقصص ألف ليلة وليلة ولملاحم أبي زيد الهلالي وعنترة وسيف بن ذي يزن، وكان يتقن أداءها أمام أقرانه مثل أي (حكواتي) محترف، ولا سيما خلال سهرات شهر رمضان التي لم يكن يتوقف فيها العمل في المعمل طوال هذا الشهر ولياليه استعداداً لموسم عيد الفطر.
وأحس دائماً أنني وأخوتي، مدينون لهؤلاء العمال، الذين كانوا بمثابة أصدقاء، بجزء كبير من ثقافتنا الشعبية الأولى وبكل ما حفظناه من حكايات وأمثال وأساطير. بل إن أول الأفلام السينمائية شاهدناها معهم، إذ كانوا يستأذنون أبي كي يصطحبونا إلى السينما. وكانت أهم دارين للسينما في دمشق في ثلاثينيات القرن العشرين هما: سينما (رامي) في شارع رامي الصاعد من ساحة المرجة إلى شارع جمال باشا (النصر حالياً)، وسينما (الكوزموغراف) في بداية حي البحصة على أحد أطراف الساحة المذكورة. وكانت الأفلام الأولى التي شاهدناها أفلاماً صامتة. وكانت إدارة السينما تستعين بفرقة نحاسية صغيرة تقوم بالعزف أولاً عند باب الدار كي تلفت أنظار الماريّن إلى الفيلم الذي سيُعرض، ثم تدخل ويجلس أفرادها تحت الشاشة ليعزفوا بالأبواق والطبول والصنوج مؤثرات موسيقية تصاحب أحداث الفيلم الذي غالبا ما يكون من أفلام رعاة البقر وبطلها الدائم (ديا بولو)، وتؤدي الفرقة أصواتاً تشبه قرقعة عربات الخيول المسرعة أو صفير القطارات أوأزيز رصاص المسدسات.
ولما بدأت تصل إلى دمشق أولى الأفلام الناطقة لم تكن طريقة طبع الترجمة العربية على الفيلم ذاته قد أحدثت بعد، فكانت دار السينما تضع شاشة صغيرة إلى جانب شاشة العرض الرئيسة، وتتوالى عليها ترجمة عربية مكتوبة بخط اليد على قطع زجاجية، يعرضها فانوس سحري موضوع في (الكابين) إلى جانب جهاز العرض السينمائي. وغالباً ما تكون الترجمة العربية مختلفة عن الحوار الأصلي، فقد يتأخر عرض زجاجات الترجمة عن مرافقة أحداث الفيلم أو يتقدم عليها، بل كان من يتولى الترجمة يضع أحيانا عبارات محلية مألوفة، فكانت كثيراً ما تمر أمامنا على الشاشة الصغيرة كلمات مثل (الكبة) أو(فتة المكدوس) وكأنها جاءت على لسان (كلارك غيبل) أو(ميرنا لوي)!.
في تلك الأيام كان مشاهدو السينما، وأكثرهم من الطبقات الشعبية، يتصورون أن الفني الذي يقوم بتشغيل الأفلام على أجهزة العرض هوالمسؤول عن أحداث الفيلم وحواراته، وأن بيده مصير ممثليه. وأذكر أننا في أحد أيام عام 1938، وبينما كنا نهم بالخروج من قاعة سينما (الكوزموغراف) بعد انتهاء عرض فيلم (ماري انطوانيت) من بطولة (نورما شيرر) وكان فني التشغيل يطل برأسه كعادته من كوة (الكابين) ليتسلى باستعراض الخارجين من القاعة، رأيت أحد هؤلاء وهو يزاحمنا ليصل إلى مقربة من كوة الكابين، وكان يجهش بالبكاء تحسراً على الجميلة (ماري انطوانيت) التي أعدمت بالمقصلة، فرفع رأسه نحو الفني ليشتمه وهو يغص بالكلمات: (ليش شنقتها يا غليظ)؟.
وكان أكثر ما يسعد عمال المعمل ذوي الميول الفنية حين كان ينتهي إليهم أن الفنان المصري الكبير يوسف وهبي قادم كعادته كل صيف مع فرقته - فرقة رمسيس - ليقدم مسرحياته على مسرح العباسية الكائن قرب جسر فيكتوريا بدمشق، فهم يعرفون أن أبي سيزودهم ببطاقات لحضور واحدة من تلك المسرحيات. وكانت تربط هذا الفنان الشهير صداقة قديمة بأبي الذي كان يحرص على دعوته مع جميع أفراد فرقته لقضاء نهارات بكاملها في دارنا الفسيحة بحي مئذنة الشحم. وكانوا حين يأتون إلينا بالعربات التي تجرها الخيول قادمين من فندقهم تتحول حارتنا لدى دخولهم إليها ونزولهم من العربات إلى مشهد مسرحي بحد ذاته وكأنه موكب عرس. فهذه كانت مناسبة يترقبها جيراننا بفرح وشوق كل عام، فترى النسوة يتزاحمن على الأسطحة القريبة، أويطللن من شبابيك بيوتهن والرجال يقفون مع أطفالهم أمام أبواب دورهم للترحيب بالقادمين الذين هم نجومهم المفضلون: أمينة رزق، أحمد علام، عبد الفتاح القصري، فردوس حسن، فؤاد فهيم، بشارة واكيم، خليل عثمان.. وغيرهم.
وكانت أمي، الشهيرة بطبخها اللذيذ المتقن، تتفنن في تهيئة أطيب المأكولات الشامية لتقديمها إلى الفنان الضيف وأفراد فرقته الذين يقارب عددهم الثلاثين. وكانوا بعد تناول طعام الغداء ينتشرون في أرجاء صحن الدار تحت ظلال شجيرات الليمون والكباد وبين أحواض زهوره ووروده أو حول بركته الوسطى يستمتعون بهسهسة مياه نافورتها وبالنسائم اللطيفة التي تهب من كل جانب محمّلة بأريج الفل والياسمين. وهم في ذلك يروّحون عن أنفسهم استعداداً لتقديم المسرحيات في المساء.
أما نحن أطفال البيت فكنا أيضاً نتطلع إلى مجيء يوسف بك لأنه كان يأتي دائماً حاملاً هدايا وألعاباً لنا فنطير فرحاً بها. وأذكر أن أول قطار صغير يسير بالنابض على سكة مدوّرة رأيته عندما جاءنا به من مصر مع كامل توابعه الصغيرة: أكشاك المحطات، وإشارات المرور، والحواجز التي تنخفض ثم ترتفع لتسمح بمرور القطار حين يطلق صفيره.
كان ذلك في ثلاثينات القرن العشرين. وبعد أن مرت السنون وعملت مديراً لبرامج الإذاعة السورية ذهبت إلى القاهرة عام 1954 في مهمة ثقافية وفنية، وكانت فرقة (رمسيس) تقدم حينذاك إحدى مسرحياتها على مسرح دار الأوبرا، فقصدتها أملاً أن نقوم، أنا وفريق العمل الذي قدم معي، بتسجيل تلك المسرحية بالصوت كي نقدمها من إذاعة دمشق. فأستأذنت بالدخول على غرفة يوسف بك التي كانت وراء كواليس المسرح، فلما سمع باسمي وعرف أنني أحد أبناء صديقه الشامي توفيق القباني هبّ واقفاً، وأقبل مرحّّبا بي، وضمني إلى صدره، وحين سأل عن أحوال أبي وأعلمته أنه توفي قبل بضعة شهور استبد به حزن شديد، وترقرقت دموع حقيقية، لا دموع التمثيل، في عينيه وأعطى أوامره للعاملين في المسرح كي يسهلوا مهمتي ويلبوا كل طلبات إذاعة دمشق وقال لي: إن لأبيك فضلاً على فرقتنا كما أن لجدك أحمد أبو خليل القباني من قبله فضلاً على المسرح الغنائي العربي في مصر.