لأن المسرح سبق السينما بما يقرب من ألفين وخمسمائة عام إذا ما افترضنا متذرعات أسخيلوس أول نص مسرحي دون ومثل على المسرح، فإنه بالضرورة بلورة أسس كتابة المسرحية. ومهما برع كاتب المسرحية في التأليف المسرحي وبناء المسرحية والشخصيات فإن التمرين المسرحي أثناء عملية إخراج المسرحية يكشف خلل بناء المسرحية وشخصياتها. ولهذا السبب جاءت مسرحيات شكسبير وتنسي وليامز من أكثر المسرحيات قوة في الحبكة البنيوية للمسرحيات وكذلك في بناء شخوص المسرحية وفي دقة الحوار وعدم وجود الفائض في الكلام وكذلك قوة الجملة الأدائية في التمثيل لأن هذه المسرحيات قد وصلتنا مكتوبة بعد تمريناتها المسرحية ولم تطبع قبلها، حيث بلورت عمليات الإخراج تلك المسرحيات وأجريت عليها التعديلات وشذب حوارها وأضيفت وحذفت عبارات وكلمات وتم تقديم وتأخير في بناء الجملة وتقدمت مشاهد وتأخرت أخرى وحذفت مشاهد وأضيفت أخرى فجاءت المسرحية مكتملة في مفردات لغتها المسرحية وجاءت جاهزة لأي فرقة مسرحية ولأي ممثل مبدع لتقديمها وأدائها، حيث كانت مسرحيات شكسبير تقدم بإشرافه كاملة ومسرحيات تنسي وليامز تحت إدارة إيليا كازان وبمواكبة دائمة للكاتب تنسي وليامز. عندنا في السينما أن السيناريو السينمائي يكشف عيوب القصة السينمائية والرواية، والإخراج والأداء يكشف عيوب السيناريو وعملية المونتاج تكشف عيوب الإخراج وعرض الفيلم أمام الجمهور والنقاد يكشف عيوب الفيلم كاملا (عند توفر النقد الأكاديمي). من نفس المنطلق حققت مسرحيات شكسبير وتنسي وليامز شكل المسرحيات الأكثر اقترابا للنصوص الدرامية المحكمة البناء.
بالنسبة لي فإن ملحمة كلكامش التي يعود تأريخ تدوينها إلى أكثر من سبعة آلاف عام هي النموذج الدرامي المسرحي والأدبي الأكثر اكتمالا وسيبقى يعيش أزمانا دون أن يفقد نكهته القوية في الفكرة والمضامين وجمال الحوار كأنه نص لما بعد بعد بعد الحداثة، ويمتد في ذات الوقت إلى أعماق التأريخ في استنباط الأسطورة والمعتقد عبر شخوص تعاني بعمق من فكرة الوجود والغياب والخلود.
وفي مجال كتابة نص الدراما المرئية فإن المدارس الأكاديمية في الغرب تعتبر نص ألف ليلة وليلة هو النموذج الذي يجب أن ترتقي إليه حلقات الدراما التلفزيونية التي لن يكون من السهل الارتقاء إلى مستواها في التشويق وفي متابعة الشخصيات والأحداث والأمكنة ووصف الموقع والضوء والزمن، ويعتبر النص حالة عبقرية في تأريخ الكتابة الفانتازية للعمل الدرامي وهو الآن قيد الدراسة والتدريس وهو حقا يحتاج إلى بحث أكاديمي كيف يمكن أن يشكل منهج الكتابة للشاشة التلفزيونية. وهذا النص يحتاج إلى عمل سينمائي أو تلفزيوني عبقري وبإمكانات إنتاجية غير عادية يرتقي فيه العمل المرئي إلى مستوى النص الأدبي ما أمكن، تماما كما فعل الروس في تحويل رواية الحرب والسلام إلى عمل سينمائي ذي طابع أكاديمي في تحويل الرواية كاملة وبكل تفاصيلها للسينما. إن كل الأعمال التي أنتجت أو اقتبست موضوعاتها في أفلام روائية أو أفلام كرتون قد نظرت بسطحية بصرية لهذا العمل المدهش (ألف ليلة وليلة) ولعل الوحيد الذي أنصف جانبا من ألف ليلة وليلة هو المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني مع أنه تناول فقط بعض مفردات الجانب الجنسي في الحكايات وهو منهج بازوليني في قراءة الواقع وانتمائه الفرويدي في تفسير هذا الواقع.
إن بلورة النص الدرامي للمسرح والسينما والتلفزيون والذي خضع في تاريخه إلى دراسات وإلى تطوير ووضعت له الأسس الأكاديمية لا نجده في الأعمال الدرامية العربية سواء التلفزيونية أو المسرحية أو السينمائية. فالكتابة هي كتابة انطباعية وحسية أكثر منها أكاديمية وعلمية. ويشكل غياب النص والسيناريو نقطة الضعف الأولى في مستوى الفيلم العربي والشرق أوسطي. إسرائيل وتركيا وإيران إضافة إلى البلدان الناطقة بالعربية، كل الأفلام السينمائية التي تنتج في هذه المنطقة بقيت تدور في فلكها في مجال التوزيع، حيث النص العربي والشرق أوسطي يحاكي رغبات المشاهد العادية والمسطحة والسطحية سواء كانت تلك الرغبات تتعلق بالحاجة والعوز أو الموقف السياسي من الحيف أو التململ من مشكلات المرور حتى يحاكي النص هذه الرغبات فإنه يلجأ للتعبير عن تلك الرغبات الحاجوية بالكلمة المستقاة من الواقع وأحيانا يلجأ الكاتب إلى مفارقات الكلمة التي تفقد معناها عندما يصار إلى ترجمتها إلى لغة أخرى فيصبح النص والحالة هذه غير ذي معنى في لغة غير العربية. وهنا يأتي السؤال لماذا النص الأجنبي الذي يأتينا من الغرب نتلقى مضامينه من الحوارات بكل سلاسة؟! لأنه يتحدث عن موقف من الحياة ومن الوجدان الإنساني بلغة تخلو من قاموس المفردات المحلية ويكتب الحوار بصيغة درامية شكلا ومضمونا. في مجال الشكل فإن بناء الجملة قابل للأداء التمثيلي ومعبر عن مواصفات الشخصية. وفي مجال المضمون فإن كل كلمة وجملة معبرة وبجدلية عن بناء العمل الدرامي، فيما حوار النص العربي مليء بالثرثرة والفائض المربك لمخيلة المتلقي حتى إن الكثير من الأعمال الدرامية المرئية تكاد تكون أعمال إذاعية فهي أعمال صوتية أكثر منها بصرية. وهذه النصوص بكل ما تحويه من خلل درامي هي أيضا تتحدث عن واقع مزيف وعن تأريخ خالٍ من الخلل والسلب ولا سيما إذا ما تناول النص الشخصيات التاريخية التي زيف تأريخها ولم تقرأ قراءة واعية وحقيقية، فالملوك والرؤساء المعاصرون والقدامى هم شخوص نموذجيون وعادلون ونبلاء وحكماء ونتمناهم أن يعودوا ليحكموا الحاضر بتلك المواصفات والقدرات فيما تأريخهم لا يختلف عما نعيشه اليوم من خلل العلاقة بين القادة والرعية. وهذا غير مقبول في الغرب فإن سلالات الملوك الذين بحثت حكاياتهم وتأريخهم في أعمال سينمائية ومسرحية، قدموا كما كانوا بدون زيف باستثناء بعض الأعمال ذات الطابع القدسي المتعلق بالأنبياء والقديسين، حيث بحثت شخوصهم على أساس النموذج المعصوم والسماوي، أما الملوك فقد كشفت الكاميرا خفايا من المؤامرات والعلاقات السرية والخيانات الاجتماعية والعاطفية والتآمر والغدر وحب السلطة، حيث لا يوجد شرطي في رأس كاتب النص الدرامي. ولو أخذنا على سبيل شخصية أم كلثوم في مسلسلها التلفزيوني وقارنا ذلك بشخصية أديث بياف المغنية الفرنسية الشهيرة لرأينا الفارق في تناول الشخصيتين، أعني وضوح الرؤية لحقيقة الواقع. لقد أجريت حوارا مطولا مع كاتب نص مسلسل أم كلثوم الكاتب الأستاذ محفوظ عبد الرحمن والحديث مسجل بالصوت سألته عن حقيقة شخصية أم كلثوم التي قدمت للمشاهد شخصية نموذجية في سلوكها وعلاقاتها الاجتماعية والإنسانية بحيث خلصها الكاتب والمخرجة من كل خلل إنساني ودخلت معه في حوارات عن طبيعة شخصية أم كلثوم التي يعرفها المصريون قبل غيرهم وسرحت في حواري معه نحو أديث بياف وكيف تناولها كاتب النص بكل وضوح وبدون خوف ما جعل فيلم أديث بياف محببا عالميا مع الفارق في التاريخين ولكنني أعني صدق تناول التأريخ بدون خوف. ولو افترضت أن المخرجة قد استخلصت من مسلسل أم كلثوم فيلما سينمائيا وقورن بفيلم أديث بياف لكنا عرفنا الفرق في مصداقية النص ووضوح قراءة الشخصية وكلاهما مطربتان تألقتا في عالم الغناء. إن أغلب الأحداث التي شاهدناها في مسلسل أم كلثوم كانت من مخيلة الكاتب الذي نجح في بناء المسلسل ولكن لشخصية كما يتمناها الناس أن تكون وليست كما هي كائنة. أعرف أن المرحلة سياسيا واجتماعيا لا تسمح في إظهار الشخصيات التاريخية أو المعاصرة والتي أصبحت رموزا ثقافية أو اجتماعية سوى بما يسمح بها العقل الاجتماعي العربي والشرق الأوسطي. وهكذا جاءتنا شخصية هارون الرشيد والحجاج بن يوسف الثقفي وهولاكو إما مصلحين اجتماعيين نموذجيين بدون أخطاء أو أشرار وقتلة بدون رحمة أو بدون استدراك، لأن ذلك مرسوم من قبل أجهزة رقابية مبنية في هرم السلطة وفي مؤسسات الثقافة وغير الثقافة.
وهكذا فإن الخلل الأول في تراجع الدراما العربية والشرق أوسطية عن الدراما في الغرب يكمن في كتابة النص. وأحيانا فإن (المنتج) نفسه يقحم نفسه في عالم الكتابة معتقدا أن بإمكانه كتابة سيناريو للسينما أو مسلسل للتلفزيون لأن النص هو مجرد حكاية يرويها بطريقته البدائية ويفرضها على المخرج والممثلين.
ويغيب عن مناهج التعليم الجامعية ومعاهد السينما الاختصاص في تدريس كتابة السيناريو وأسس البناء الدرامي، كما يغيب المنهج النقدي فتمتلئ صفحات الجرائد بكتاب النقد السينمائي والمسرحي وهي ليست سوى مقالات انطباعية تربك إحساس المتلقي.
إن الحديث عن تقنيات السينما على سبيل المثال يحتاج إلى خبرة ومعرفة من قبل الناقد لطبيعة هذه الحرفة وأجد أحيانا الكثير من كتاب النقد السينمائي يتحدثون عن عمليات المونتاج السينمائية وهي مهنة لها علميتها في مراحل الإنتاج السينمائي فيسمح الناقد لنفسه بالتحدث عن حرفة وهو لا يعرف أسرارها فيعزو ضعف النص للكاتب فيما قد يهدم المونتاج نصا جميلا بعملية توليف غير متقنة حرفيا والعكس صحيح أيضا إذ قد ينقذ المونتاج نصا فيه الكثير من خلل البناء.
إن ما يقرب من مائة عام قد مرت على تأريخ السينما في المنطقة العربية وهو عمر يساوي عمر السينما العالمية، كما أن تأريخ المسرح في العالم وانتقاله للمنطقة يكاد أن يكون متساويا، فيما نجد تطوير النص الدرامي ووضع الأسس السليمة ووضوح الخبرة والتجربة قد تألقت في الغرب ولعبت دورا مهما في تطوير الثقافة المرئية فيما بقيت هذه الثقافة أسيرة الإهمال والتهميش الذي تمارسه الأجهزة العربية بقصدية في غياب حرية التعبير الشرط الأساس في تطوير الكتابة للسينما والمسرح بعد اعتماد المنهج الأكاديمي في التعليم الذي يؤهل كتابا ونقادا يرتقون بفنون الدراما إلى مستويات يطلق عليها.. العالمية.
- هولندا
sunu nu@wanadoo.nl
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244