اعتمدت قواعد اللغة على العام المشترك من استعمالها في النصوص المسموعة والمروية، وظلت نصوص أخرى مخالفة لهذه القواعد. فثمة طائفة من القراءات القرآنية غير موافقة للقواعد المقررة. وثمة أبيات مخالفة لتلك القواعد، وتقبل هذه القراءات وتلك الأشعار على أنها جزء من اللغة. فاللغة أوسع من قواعدها، ولو قعّد على كل مسموع ومروي ما توصل إلى قواعد عامة، ولتعذر ضبط الاستعمال.
وأما الأشعار فإن لها طبيعة خاصة تحكمها الأوزان الشعرية والقوافي، إذ تقتضي هذه الطبيعة من الشاعر ألوانًا من التخير من المعجم ومن الأبنية، وتلجئه إلى جملة من التراكيب التي يقترب بها أو يبتعد من لغة النثر. ولمَّا كان الشاعر حفيَّاً بمعناه حريصاً على إنشاده وتجويد نظمه كان أمر مخالفة القواعد أهون عليه من الإخلال بمعنى أو التقصير بأداء نغم. من أجل ذلك كان اتهام الشاعر بالإقواء إنما هو لتطبيق القاعدة النحوية على شاعر أهمل أمر القاعدة ليقيم لشعره أمر النغم.
وأما وصف مخالفة الشاعر للقاعدة أنه ضرورة ألجئ إليها، فهو اعتذار له عن هذه المخالفة وتفسير لها دون الإشارة إلى أنه لا يأبه بالقاعدة بل باستقامة النظم. ولعل هذا ما يفهم من جواب الفرزدق للنحوي الحضرمي حين سأله عن شعره، فقال: لو شئت التسبيح لسبحت.
وكان أمر القول بالضرورة مقبولاً في حق الشعراء القدماء الذين ينظمون أشعارهم بعفوية قبل أن يكون لتقعيد اللغة معالمه الواضحة التي يمكن للشاعر أن يراعيها ويعمل التصحيح في ضوئها لشعره. ولكن جعل الضرورة معياراً تقاس به الاستعمالات الشعرية كلها هو ما يمكن التوقف فيه. وفي ضوء هذه الفكرة يمكن النظر إلى مواقف النحويين من الضرورة.
أما سيبويه فيذهب إلى أن الضرورة هو المخالفة التي ألجأه إليها نظمه من وزن وقافية. ولم يأخذ النحويون بقول سيبويه هذا غير ابن مالك الذي شدد على هذا حتى توهم أنه رأي ابن مالك. وأما جمهور النحويين فتابعوا ابن جني الذي رأى أن الضرورة هي ما يقع في الشعر وإن كان يمكن للشاعر أن يتفاداه، بمعنى أن الضرورة ما يقع في الشعر من مخالفة. وأما الأخفش فله رأي مخالف لغيره من النحويين، مفاده أن الشعراء لهم طبيعة خاصة وهم متأثرون بنظمهم، ولذلك فالضرورة واقعة في أقوالهم وأشعارهم، وكل ذلك مقبول عنده. أما ابن فارس فإنه كان أكثر تحيزاً للتقعيد ولم ينظر إلى الشعراء نظرة تميزهم من غيرهم بل نظر إليه نظره إلى كل مستعمل للغة، فقال: (وما جعل الله الشعراء معصومين، يوقون الخطأ والغلط، فما صحّ من شعرهم فمقبول، وما أبته العربية وأصولها فمردود).
والذي أراه أن القول في الضرورة غير مقبول حسب قول ابن جني والجمهور، وأما قول سيبويه وابن مالك فأراه ضروريَّاً لتفسير الأشعار التي رويت قبل التقعيد وانتشار المعرفة النحوية، ولكنه لا يطبق على أشعار من جاء بعدهم فهؤلاء يطبق عليم مذهب ابن فارس؛ إذ لا عذر لهم في المخالفة، وليس للقول في مثل ذلك ضرورة.
* أستاذ النحو - كلية الآداب - جامعة الملك سعود - الرياض