بخطى متثاقلة، اتجه العم (أبو صالح) إلى دكانه الصغير في حارة شعبية بقلب الرياض، كانت الشمس قد فاقت لتوها من نومها العميق... والعصافير الصغيرة قد بدأت تستعد لرحلتها اليومية.
أبو صالح.. شيخ مسن، يعرفه كل أهل تلك الحارة، جميعهم يحبونه ويقدرونه.. صغيرهم وكبيرهم..
(الغبار) هو سيد الموقف في الدكان، رغم أنه يحوي حاجيات ضرورية من أغذية ومشروبات وأخرى (لزوم السوق) كما يقول.. يبدو متعباً اليوم.. وعيناه ملبدتان بغيوم الحزن والأسى.. تلونتا بلون الدم.. فهو لم ينم ليلة البارحة، لقد ودع بالأمس صديق عمره (أبو محمد).
لقد أصبح وحيداً في هذه الحياة..
حدث نفسه فقال: بالأمس كان أبو محمد هنا بجانبي في هذا الدكان، نتبادل الحكايات سوياً، ونشرب قهوة الصباح، نستعيد الماضي الجميل بقصصه وعبره، ونتذكر أيامه بحلوها ومرها..
ماضٍ قاسٍ بذكرياته وآلامه، لكنه جميل بطيبة أهله وبساطتهم، وبروعة فترة الطفولة والشباب التي لا تعوض..
(يذهب لص ويأتي آخر..)،
هذا حاله مع عماله الشرق آسيويين.. يأتي بهم ليساعدوه.. فيسرقونه.. ويمضون.. يلومه البعض بإحضاره لمثل هؤلاء العمال وبأن (المال السايب يعلم السرقة).. فيرد عليهم بأن (الحاجة شينة).
(بابا ما فيه معلوم.. أنا فيه معلوم..).
عبارة أسمعها دائماً.. يقولها (سليم) فأشعر وكأن سكيناً تنغرس داخل صدري المتعب..
كيف لا... وهو الذي يبيع ويشتري - يقوم بإيصال الطلبات يأمر - ينهي.. يجامل.. ويخصم..
هو يقوم (بكل) شيء... وأنا لا أقوى على فعل (أي) شيء... صرت أنا (العامل).. وهو (السيد) المطاع...
لقد جاء من بلاده فقيراً.. معدماً.. قبل ثمانية أشهر.. فأصبح بين ليلة وضحاها يقوم بدور (البطولة)... وكل من حوله مجرد (كومبارس)...
كنت أعرف من نظراته أنه أصبح تلميذاً نجيباً في مدرسة فنون السرقة وعدم الأمانة... لكني كنت في كل مرة أغض الطرف لحاجتي الماسة له...
رأفت بحالي.. رأفت بحال أبو صالح.. كيف كان.. وكيف أصبح...
دخلت (بشائر) ذات الأعوام السبعة إلى الدكان..
طفلة جميلة.. ومتفوقة في صفها... اشترت بعض الحلوى وهمت بالخروج لكن شد انتباهها بعض الألعاب الجديدة الموضوعة في ركن من أركان الدكان، أحضرها أبو صالح بمناسبة قرب قدوم عيد الأضحى المبارك...
(بكم هذا القطار الجميل يا عم) سألت بشائر... (بعشرة ريال).. أجاب سليم... لكن نقودي لا تكفي.. سأعود بعد قليل ومعي النقود كاملة... ناداها أبو صالح قائلاً: خذيه معك.. واحضري النقود متى شئت.
فرد (سليم) بغضب.. (لازم فلوس أول)...
رمقته بشائر بنظرة دهشة وخوف وقالت: سأتركه هنا.. وأحضر النقود بعد قليل... وتتبعها (سليم) لتوصيل طلب للبيت المقابل للدكان...
نظر أبو صالح إلى ذلك القطار الصغير... تأمله طويلاً طويلاً... كأنه يرى أيام عمره في هذا القطار..
يا له من قطار يشبه قطار الأيام...
الأيام التي لا تبقي على أحد... فكر في الدنيا... فكر في أحوال الناس.. فكر في زوجته التي رحلت عنه منذ أربع سنوات، فغدا وحيداً.. بلا أنيس أو جليس.. مجرد حطام رجل مسن.. أمضى أكثر من ثلاثين عاماً من عمره حارساً للمدرسة الابتدائية في الحارة، ثم تقاعد.. وها هو محبوس هنا.. ينتظر نهايته في أي لحظة.ز يتجرع الآهة تلو الأخرى... ويشرب من كأس الوحدة المر...
كل أصدقائه تركوه.. ورحلوا...
(أبو سلطان)...
(أبو سعد)...
والآن... (أبو محمد)... أعز أصدقائه.. رحل هو الآخر... تذكر ابنه الوحيد (صالح) الذي تزوج منذ أكثر من عشر سنوات واستقر في المنطقة الشرقية لظروف عمله.. انشغل بوظيفته وأبنائه... وأسهمه... ولم يعد يراه إلا في المناسبات والأعياد... بناته الثلاث.. (نورة - سارة - مها) تزوجن وأنجبن واستقرت كل منهن ما بين الدمام وجدة والجبيل...
لم يتقبل أبو صالح فكرة البعد عن بيته القديم.. وحارته التي أحبها وأفنى فيها عمره.. ومسجده الذي تعود على الصلاة فيه... والاستقرار عند صالح أو أحد بناته...
يغمره إحساس بالغربة.. والحنين.. عندما يزور أحدهم فيعود سريعاً إلى بيته... استرجع شريط عمره الطويل في لحظات.. تحجرت الدموع في مقلتيه... واحتبست أنفاسه...
(سوف تنبهر صديقاتي بهذه اللعبة الجميلة، سوف أفتخر وأزهو بينهن بأنني أول من امتلك هذا القطار الرائع)...
أفكار بريئة تتزاحم في مخيلة طفلة صغيرة... وصلت بشائر إلى الدكان.. وهي تلهث.. يملؤها الشوق واللهفة للعبتها الجميلة...
وجدت العم أبو صالح ملقى على الأرض وقد فارق الحياة.. وبجانبه قطارها الجميل... وقد تحطم...
صرخت بشائر وانهمرت من عينيها الدموع... سمعها سليم.. جاء مسرعاً نحو الدكان... رآها تبكي بحرقة.. نظر إلى الجثة الملقاة على الأرض... نظرة ازدراء مشوبة بفرح دفين.. ثم حول بصره نحو بشائر طالباً منها الخروج من الدكان...
مد يده نحو الدرج.. أفرغه من النقود وبطاقات الهاتف ثم صرخ طالباً النجدة..