بين كل لحظة موت وأخرى، هناك لحظة ميلاد، هناك لحظة حياة فاصلة بينهما، وللموت رائحة أصعب من أن يدركها أي إنسان، ويحدث للموت أن يأخذ شكل الحياة، الموت جاء وأسدل ستائره على تلك المدينة القصية في أطراف البلاد، الموت جاء مع الجوع والحصار، ومع النيران الملتهبة المتساقطة من السماء، أو تلك التي أمطرتها السماء ذات مساء غائم بالنار. قبل أن يهجع السكان الطيبون إلى مراقدهم، لا يملكون سوى إيمانهم وصفاء أرواحهم قوتاً لهم.
سمع الموت بأنباء تلك المدينة القصية، وبأنها ما بين جريح ومحتضر، سمع بصرخات الاستنجاد الداعية إليه من أفواه المساكين، فرحل إليهم مهرولاً، وهو يتعرقل في طريقه ببقايا الحطام والخراب التي خلفتها النيران المستعرة من السماء، رحل وهو يود أن يتمكن من خلاصهم بأسرع وقت ممكن كيلا يطيل عذاباتهم وآلامهم.
كان يمر بينهم وهو ما بين الحطام يطبع قبل على جبينهم ويطبق بيده على أعينهم، بعدما أخذ أرواحهم بيديه، بعدما يعطي لكل منهم حمامة يحلقون بها إلى السماء.
مضى وقت ليس بالقصير وهو هنالك يشد الهمة بالعمل، حتى ظن أنه أوشك على الانتهاء وطفق يلملم أثار الدمار، ويعيد غرس الأشجار من جديد لحياة أخرى، ويساعد النهر على التدفق، جاءه صوت أنين أشبه ببكاء طفل صغير، راعه الصوت وعاد يبحث بين الركام، فعثر على امرأة كانت قد فارقت الحياة متأثرة بجراحها ألماً، وبين ذراعيها وليدتها، كموسيقى تصرخ تلك الطفلة، التي لا تملك من العمر سوى أيام، تبكي طلباً للحياة والماء.
نداء الحياة ينسكب كنغمات موسيقية على مسمعه، فحمل الموت الطفلة بين ذراعيه، كانت جميلة، أجمل من أن يأخذها في تلك الساعة، آثر لها الحياة بدل الموت، وشعر في قرارة نفسه بأنها تستحق حياة أجمل، فحملها إلى النهر لتشرب ماءه، أخذ بأطراف أنامله قطرات منه وأخذ يسقيها إياها، فعادت للحياة بوهج وفرح. ثم تابع طريقه وهو يحمل الطفلة بين ذراعيه، ويقودها بعيداً عن مدينة الدمار والحطام، أراد لها أن تكون بعيدة عن كل هذا الخراب. حملها معه في سفره الطويل حتى توقف عند باب مدينة أخرى، جلس ليستريح قليلاً والطفلة بين يديه تعبث بلحيته البيضاء، فسمع عن بيت في المدينة لم يرزق أصاحبه بأطفال، فمر على البيت ودق الباب، وترك الطفلة أمامه، ثم اختبأ بين الأشجار وأخذ يتابعها بعينيه ويشيعها بنظراته الدامعة السعيدة بها، ثم رحل بعدما اطمأن عليها، وفي عينيه دمعة حزن ورضا؛ لأنه يعلم أنه قد يمر وقت طويل حتى يعود إليها مرة أخرى.
يحدث للموت أن يصادف الإنسان مرة واحدة في حياته، لكن تلك كانت المرة الوحيدة التي صادف بها الموت الإنسان مرتين في الحياة. مضت سنوات وسنوات، حتى جاء الموت ذات مساء حنون ودافئ، وطرق باب البيت، ففتحت له امرأة مسنة، كانت هي تلك الطفلة الرضيعة ذات يوم!.