(قنص) البيئة:
أي البيئات يمكن القول أنَّها الأصلح أن تكون مسرحاً للحدث الروائيِّ؟ وهل هناك بيئاتٌ تُستثنى سردياً؟ هذا ما كان يأتيني كهواجسٍ متداخلة وقت أن أفكر: لم هذه البيئة التي تجمع الصحراء بالجبال لم تُطرق من قبل؟ حتى جاءت (قنص) للمؤلف عواض العصيمي لتمكِّن هذه البيئة من الحضور سردياً بعيداً عن السائد من أنماط المكان في الرواية السعودية. لا أنكر حسرتي قبل قراءة (قنص) على الصحراء التي أشارك المؤلف في معرفتها، في العيشِ فيها، بسبب قلَّة تداولها سردياً من قبل (خارج الثقافة الشعبية وعلى مستوى المنجز الأدبي الفصيح).
تلك الصحراء التي لا تكتفي بالمدِّ الرملي إلى الأفق بكلِّ الاتجاهات. ما أعنيه هو صحراؤنا التي تحدها الصخور والطرائد الجبلية، بادية الحجاز تحديداً. ولا أنكر أيضاً لهفتي على ذكر مفرداتها (و تتبُّعها) - بعيداً عن أحداث الرواية - واستئناسي بها كذكرى لماضٍ متَّصلٍ بأبنائها حتى هذه اللحظة - هذه المدنيَّة.
ذلك وأشيد بالمؤلف الذي ألغى عن هاجسي وهم استثناء البيئات غير الممكنة في السرد، وأظهر قدرة هذه الصحراء - المنغلقة على أوديتها - على احتضان شخصياتٍ تأخذ منها أكثر من طبعٍ ورسم.
(قنص) الدلالة الصوتية:
الصحراء في (قنص) تبذل سمتها الصوتية طيلة الرواية، الصحراء لا يمكن تجاهل دلالاتها الصوتية واختلاف البدء (النداء - السؤال) والرجْع (الأصداء - الإجابة) فيها عن سواها من بيئاتٍ شتّى، وهذا عاملٌ مهم يخدم الروائي إذا ما شرع في الصحراء بانتباهٍ لكل خصوبتها المكنونة.
هي رواية الأصوات، وقبل أن أخوض في وصفها هذا، ألخص الظاهرَ من أحداث الرواية، التي تتمثل في قوة باطشة تسكن (الدربيل) الذي يستأثر بالعذراوات تحت سلطة الزواج القسري، مما حدا باستنبات حلّ يخلخل كرامة الصحراء بإلباس الفتاة (هذلا هنا) لباس الرجل وحياته (ناشي).
ومنها تبدأ (قنص) مستلهمة السمات المتاحة من المكان لتسيير خط الرواية بدءاً من زمنها الأول الذي اتخذ المكان كإشارة للوقت: (حدث ذلك في غسقٍ بعيدٍ ومُبهم) وهذه أول جملة (كتابيَّة وثقافيَّة) في الرواية، هي رواية الأصوات، أولها يبدأ كإجابةٍ بعد نقطتين: (لسؤالٍ خفيّ (صيغةً وسائلاً) نفترضه صوتاً مضمراً وأول التصاعد الصوتي في الرواية - الصحراء.
ذلك أن الصوت يرسم مساره التصاعدي في السرد، فبعد مجيئه كسؤالٍ مضمرٍ موجود وغير مكتوب يبدأ في الظهور بتدرجٍ مقصود في حضوره، فهنا جاء كقولٍ بعيدٍ وعائم:
(مما تحدثت به الأصوات المتجولة عن هذلا:)
ثم يرتبط المكان بالصوت الداخل إلى السرد كخيط رفيع يجمع تآويل الأحداث إلى بعضها: (سمعتْ صوتاً من الداخل كأنه ينبعث من الأرض الواسعة).
(جاوبتها الأصوات المتجولة.. لكنها لم تسمعها (....) وكانت الرياح تسير في الاتجاه الآخر فتبعثرت الكلمة في الأنحاء).
(من يفهم الدربيل على أي حال؟ قال صوتٌ لصوتٍ فانتقل السؤال من فمٍ لفم) .
ويبدأ التصاعد في الاطّراد إلى دخول الصوت في النسيج الجمعي للصحراء بوصفها بيئة تدمج الإنسان في أشيائها، فلكل حدثٍ (ردّ صوتيّ) يقابله كردةٍ فعلٍ أولى (نجدها في تعليقات البدو - المتمرسين في السخرية - على قتل هذلا لزوجها المسن). ونجد أن الصوت هو المحرك الأقوى للأفكار في شخصيات قنص، بين طريقة تفكيرها وتأويلها للأشياء وبين تبرير أفعالها.
إلى هذا، نجد أن فرحان القناص بعد غياب فكرة الموت عن ذهنه، تعود وبقوة لتخامره من خلال صوته الداخلي الملح الذي استجابَ بعد سماعه لقصة موت زوج هذلا على يديها.
وهذه نتيجة طبيعية غير مبالغ بها على اعتبار سلطة الصوت بدرجاته على الحياة في بيئةٍ أصغر جهةٍ فيها هو مدى بكامله ! وعلى اعتبار أن (لا شيء أكثر بساطة من أن يصغي شخصٌ وحيدٌ في البريّة، فقط يصغي) أيضاً.
هذه هي مكانة الصوت في (قنص)، هي الأولى والأهم، هي الأسباب مجتمعة وهي النتائج، الصوت هو المنجاة وهو الهلاك في تحركات القناص الصامتة وهفوات الطريدة، هذلا نفسها تحت إمرة التخفي وشروطه القاسية تتغير المحاذير التي تُملى عليها من مختصرة وجازمة حول جوانب الشكل: (شد العمامة حول وجهك واعتدل في جلستك) إلى حكمة مطنبة ودرجة أعلى من الحذر حول جوانب الصوت: (وإذا تكلمت فإياك والثرثرة ورفع الصوت أو الضحك، الرجل في العادة مثل الصندوق المغلق إذا تكلم عرف الناس ما بداخله، رد على السؤال بأقصر الكلمات ثمّ التزم الصمت) - هي رواية الأصوات بكل تنويعاتها، لذلك تكثر الدلالات على امتداد صفحاتها، الجدّ الذي استمرَّ يصغي إليهم من قبره ويرحل معهم، عاد ليتوقف عن اللحاق بهم (منذ أن توقفت هي عن سرد الأخبار المطولة عنه) والحديث عن أم هذلا.
(قنص) سطوة المكان..
سطوة الاتجاه:
- هل يمكن اعتبار المكان - البيئة أحد شخوص الرواية؟ ونتيجة لذلك يمكن رصد تأثيره على بقية الشخوص وتأثره بالمثل؟ هذا يقودنا إلى افتراضٍ آخر قابل للتساؤل: هل من المقدور إخبات المكان الأصل في بعض الروايات واستجلاب مكانٍ بديل يحمل مهمّة الخلفية المكانية للأحداث؟
نعمٌ ونعم، إجابة واحدة لسؤالين، ولكن طبيعة الاختلاف أن (نعم) الأولى مختصة بالروائي المتمكن القادر على توظيف كل العناصر في الرواية، ومنها المكان وطبيعة الأرض والأجواء حتّى، و(نعم) الأخرى هي للروائي السهل البسيط، الذي اهتمّ بالجانب الدرامي الظاهري لروايته، فكانت صالحة على كلِّ مكانٍ وقد تتجاوز هذه الصلاحية إلى قبول الزمن المتعدد والخيارات العائمة.
من هذا نقرأ (قنص) كرواية تعطي المكان أهمية الحضور والتأثير، ونجد شخوصها يعيشون الانتماء إلى المكان بطبيعته دون خصوصية تضع حدوداً مُجمعاً عليها، فهذه هذلا تأسى على قصورها عن التشكل بهيئة المكان: (شعرت بحزنٍ شديد لأنها لم تتمدد كفايةً لتمنح أعضاءها شكل البرية الطليقة المفتوحة على السماء).
وفرحان وموقفه الآمن بعد فاجعة تجربة الذخيرة يعاني الاحتباس حتى شعر بعودته إلى حِمى المكان: (جلس في أرضٍ سبسب منبسطة (....) ولمّا أحسَّ وهو جالس أنه عاد إلى الصحراء، بالَ بارتياحٍ كبير!) لابد أن ننظر بتأنٍ إلى احتباسه رغم خروجه من الأسر المؤقت حتى شعوره أنه عاد إلى انتمائه جلوساً، حيث الوضعية الأقرب للرمل، وصف الصحراء الأول.
أيضاً تلبَّس المكانُ طريقةَ التفكر عند شخوص الرواية ووضع عليها إشاراته ومجازاته، فيبدو فرحان القناص في تيهه وقد تمثل صورة الجمل: (عندما يدور الأفق من حوله (....) يسقط على الأرض ويشمها بأنفه (....) تعلّم شمّ الروائح من جملٍ يوضع في أول القافلة...).
ويمكن تبرير هذا على أنه محدودية المعرفة، لكن الصحراء تفرض على شخصيات الرواية سطوة الاتجاه، الاتجاه إلى الأسفل، تشدهم إليه بحتمية المآل الآخير، الصحراء هي الرمل، هي الأرض البكر القريبة، وهذا ما يجعلها جهةً مقدسةً للأسفل، بشكلها البسيط، حيث الأرض تعني القبور والأموات (أهلُ الأسفل) تستيقظ فيها الأجداث وتتحول إلى كائناتٍ غير مرئية، ذات قوى لا غنى عنها: (انطلقي إلى القبور، هناك تجدين خلاصك) وتبعاً لسير الأحداث يرد ذكر الأموات بصيغة الأحياء، وافتراضية استمرار حياتهم وربما بشكلٍ مضاعف.
فذكرُ أموات الحرب لا يعطيهم الموت إلا في صمت أجسادهم: (أسلاف فرحان المحاربون تحت حفنة الرمل بجثامينهم الصامتة).
أما الشكل المعقد للجهة المقدسة، فيكمن في تصويرٍ عكسي للمفهوم عن القوى، إذ يظلّ الأعلى دائماً هو الأقوى موقفاً، وعادةً يجيء مع الغرباء - مع المدينة - مع التغيّر، نلمس ذلك في الاسم الخاص الذي أطلقته هذلا على الشاب القادم من المدينة: (أعطته اسم حشرة تطير في الهواء)، إذن هو حشرة طائرة، إلى الأعلى بعيداً عن جمود الأرض، والباعث على هذه التسمية المُتَّجهة هو نفسه الباعث الذي هزَّ ناشي وجعله يلوذ بانتمائه المكاني لحظة الاصطدام بالغريب اللا منتمي: (جلسَ مضطرباً، لأن الرجل الذي أمامه ظلَّ واقفاً..).
التنكُّر السرِّي، المشاع!
تغيير الأصل في الشخصيات الروائية يأخذ أشكالاً عدة، وعادةً ما يكون في إطار الجنس نفسه، كما ورد في رواية القارورة(1) ليوسف المحيميد، إذ تحوَّل الأصل حسن العاصي إلى (الأصل الآخر) علي الدحال مع تشابه وظيفي وفرق اجتماعي دون تغيير الجنس.
لكن تغييره بأحد الاتجاهين ينحو إلى تدبير مركَّبٍ للأحداث حتى ينسجم في أحداث الرواية دون اغتصابٍ للمنطق واختلاقات ساذجة حتى يكون موائماً للفكرة، سبق وأن كانت إحدى الشخصيات في رواية محلية تتردد بين الذكورة والأنوثة، بغير حاجةٍ تنكريَّة.
هذا التردد هو ما حصل لهذلا، ولكن هذه المرة كان التردُّدُ حلاً وعقدةً يتدخلان في خط الرواية الرئيس ويؤثران عليه كعمودٍ أساسي للسرد، بالإضافة إلى أن السارد شُغلَ كثيراً في التبرير لسرِّ نجاح خطة التنكُّر، ليقنع القارئ أنَّ هذا الصعب جداً كان ممكناً، ومن ذلك وصف (هذلا-ناشي) بشابٍ خنين الصوت ودائماً ما يُرى ملثَّم الوجه، تلك التبريرات كلها تسقط حين تكتشف هذلا أنَّ الكل يحيا في تواطؤ كبير ومقصود لإنجاح هذا التنكُّر الذي كان محور حياتها - نجاتها، وهذه صدمة الرواية!
ذقها يا فرحان!
تلك هي كلمته التي يحدث فيها نفسه بصوتٍ مسموع وهي التي تأخذه من حال السلم إلى القفز في المجهول. فرحان ذلك القناص الذي منحته هوايته فرصةَ التأمل ورسم حياته كما يريد. كانَ وجوده الموازي لحياة (هذلا - ناشي) وإن قلَّ في مساحة الحضور في غايةِ الأهمية. التعاطف والتآلف مع (هذلا) شعورٌ مرافق لكلِّ من سيقرأ العمل، ولكن (فرحان) يمثِّل أصواتاً ظاهرة وضامرة في نفوس الشخصيات الباقية، يمثِّل الحلمَ وطريقة النجاة، والخروج من الثابتِ الجبريِّ إلى المجهولِ الطليق! إنَّ وجود شخصية مثل فرحان حياتها تدور في مدارات الوحدة والترقُّب، يعطي الساردَ مجالاً واسعاً للعمل على البعد التأملي للصحراء واستظهار فلسفة العزلة فيها.
عوَّاض قاص وروائي ذكي، يعرفُ جيِّداً أنَّ تحميل السردِ فوق طاقته من الصور والمجازاتِ سيعطَّل غايته الرئيسة، لذلك أراه امتطى (السردَ الشعريَّ المتقطِّع) كوسيلةٍ لشرح الأمداء الرملية والنتوءاتِ الصخرية، هي ليست أشكالاً تنحتها الرياح لتعطي الظلال الكئيبة، هي مكانٌ يملي إسقاطاته على الشخصيات ويعطيها دلالاتٍ أكبر من مسألة الزواج القسري أو الخوف أو الجوع والعطش! قنص، رواية دلالية، نقرأها في المرَّة الأولى لنعيش غرابة الزمان والمكان، حتى إذا ما أعدنا القراءة تكشَّفت لنا خطورة الإسقاطات وذكاء الاحتمالات المفتوحة، إنَّ الدربيلَ يوصفُ بالسمين والنحيل، بالقويِّ والضعيف، بالغامض والمُدرَك، وتتعدد الرؤى والأقاويل، إنَّ فرحان كان وحيداً يحمل أداته ويعتلي الفراغ والوحشة، ثمَّ انهزم، ثمَّ استلهم السلامَ من فجيعته، ويعود الصوت الجديد ليحمله إلى نفض الهجوع وتحطيم الوهم السائد منذ سنين، بهذا.. أليست قنص هي رواية الأصوات والاحتمالات المفتوحة؟.
والآن.. أقف على نهاية ما كنت وددت قوله عن قنص، العمل الصادر من دار الجديد ببيروت عام 2005 للروائي عواض شاهر في 187 صفحة من القطع الكبير.
أقف على النهاية وأعيد السؤال الذي انتهت به الرواية: (ترى، ماذا يُسمون الحالة التي أول ما تجيء، نعرف فوراً أننا بسببها لن نعود كما كنا قبل مجيئها؟)
(1) يوسف المحيميد: القارورة، المركز الثقافي العربي 2004م.