لقد سألتني عن عظيم:
... أما الجدار، فقد كان أكبر بنيان حجري في حارتنا يومها، لا نلعب إلا عند الجدار... كل الشجارات تبدأ وتنتهي عنده.. من هناك تنبع خصوماتنا وعنده نتصالح.. تجد الأمهات والآباء أطفالهم التائهين عند الجدار وأركانه.
كانوا يقولون لنا بأن الجدار وجد من ذات نفسه، وربما قالوا بأن الجدار كان قبل الحارة، يزعم بعضهم ويحلف بأغلظ الأيمان ويضرب الجدار بقبضته: بأن الجدار بناه البرتغاليون أيام احتلالهم لمسقط. ومنهم من يقول بأن الجدار بقية باقية من كنيسة هدمت بعد رحيل الانجليز من مسقط.. الكل يتشدق عن الجدار ولكن لا أحد يعرف حقيقته.
عند الجدار يرتاح الغريب ساعة دخوله حارتنا، الاحداث والآثار لا تؤرخ إلا قبل أو بعد الجدار، يقولون بأن فلان ولد قبل الجدار، وأن فلان تزوج بعد الجدار، وأنه مات بعد الجدار، الجدار يحبنا ونحبه... الجدار صديقنا.. عندما تريد الأمهات معاقبة أولادهن يربطنهم عند الجدار.. الهروب إلى الجدار ملاذنا من عصا الآباء ومعلم القرآن..
في المساء نتسامر عند الجدار، صغيرنا وكبيرنا.. وفي آخر الليل يبدو الجدار مضاء بذاته.. قال القادمون إلى بلدتنا إنه يبدو كطور سينا... يحكي خالي بأنه كان قادما في ليلة مظلمة باردة من سهراته، فمر بمحاذاة جدارنا فسمع صوتا من الجدار يقول له: لا تسهر كثيرا، فصار خالي من ليلتها من كبار عباد الحارة.
يقولون بأن البلدية أرادت أن تهدم الجدار وتبني مكانه حديقة عامة، ولكن آلياتهم خابت والعمال أصيبوا بأمراض جلدية شوهت وجوههم... فبقي الجدار في شموخه حتى الآن.. مرة قال لنا مسن في الحارة: هذا الجدار مذكور في القرآن وهو الجدار الذي أراد أن ينقض فأقامه سيدنا موسى مع العبد الصالح، فسخرت منه الحارة: خرّفت يا شيخ ربيع.
الجدار معلم قديم من معالم حارتنا فأسمعهم يقولون: تعال عند الجدار.. نلتقي قرب الجدار.. هل بيتكم قريب الجدار.. الماشية عند الرجوع من الجبل تمسح رؤوسها في الجدار يمنة ويسرة.. ربما وضعت وليدها هناك.
لا أحد يعرف عمر هذا الجدار الضخم.. عمال الآثار حفروا حوله فتفاجأوا بأن الجدار يغوص في باطن الأرض ويتمدد كجذور أشجار النخيل.
خرافات كثيرة نسجت حول جدارنا هذا؛ يقولون بأن الجن هم الذين شيّدوا هذا الصرح الممدود بأمر من سيدنا سليمان عليه السلام.
أما أنا فلن أصدق كل ما قيل ويقال عن هذا الجدار الأبكم سوى حكاية واحدة لأنها حدثت أمامنا ونحن صغار نلعب عند جدار حارتنا كالعادة.
كنا ساعتها عصبة من الأطفال نركض ونلهو ونجعل من الجدار بداية انطلاقة لعبتنا ونهايتها. كان عمري حينها تسع سنوات، أي في سنة ألف وتسعمائة وواحد وأربعين للميلاد.. سمعنا جلبة عظيمة من عسكر والي مسقط. كانوا يركضون وبنت الوالي تركض قبلهم بلحافها حتى وصلت إلى الجدار؛ فلما أراد العسكر الإمساك بها، وجدنا أن الجدار انفتح وبلع بنت الوالي كما تبلع السمكة الطعم خطفة واحدة. لكن ظلت خصلات من شعرها الناعم متدلية خارج الجدار.. وتقول الحكاية بأن ابنة الوالي كانت تحب شاباً من حارتنا في السر فلما علم الوالي بالأمر من خلال بصاصيه وعسسه الأوفياء، أراد وأدها في أحد جدران الحصون، فهربت وحدث ما حدث....
قد تبدو الحكاية أقرب إلى الخرافة، وأظنك تضحك الآن وأنت تقرأ رسالتي هذه لكن الأمر الأغرب في هذه الحادثة أن الخصلات أخذت في النمو كنمو الأغصان، وصار الأمر مرهقاً يومها... فتصرفت السلطات بعد كل الحلول الفاشلة ومنها هدم الجدار. فقررت بأن يقوم العمال بحلق الخصلات كلما طالت عن الحد المعقول...
إنها خصلات جميلة. ذهبية ناعمة جداً. لو أتيت بخاتمك وسكبت فيه تلك الخصلات لانسكبت كالعسل الجبلي. للجدار رواته وساردوه وما أنا إلا واحد من هؤلاء الكذّابين الذين يقولون ما يسمعون من آبائهم وأجدادهم وجداتهم بزيادة أو نقصان.. هذه هي حكايات جدارنا والله أعلم.