من الأمور المثيرة للانتباه في الساحة الثقافية العربية غلبة الطابع النخبوي عليها في مقابل ضمور -أو قل اختفاء- الاهتمام بما اصطلح على تسميته (ثقافة الجماهير)، أي تلك النزعات والميول والاتجاهات والأذواق التي تحكم طريقة الوعي الجمعي لعموم الناس أو حتى قطاع منهم، كما تحدد اتجاهاتهم وسلوكياتهم تجاه المتغيرات المجتمعية المحيطة بهم.
هذا النوع من الاهتمامات الجديدة يشكل ذلك الفرع المعرفي المستحدث نسبياً والذي عُرف منذ منتصف القرن العشرين في آسيا وأوربا والولايات المتحدة وأطلق عليه مجال الدراسات الثقافية Cultural studies تميزاً لها عن الفروع العلمية التقليدية القديمة التي تهتم بالثقافة مثل النقد الأدبي وعلم الاجتماع والإنثرولولوجيا.. الخ.
وتهتم (الدراسات الثقافية) بالتفسير الثقافي المتعمق لطائفة واسعة من الظواهر المجتمعية من قبيل الخطاب العادي للحياة اليومية أو بعض الفئات الاجتماعية التي يمكن تمييزها بخطاب ثقافي مجتمعي معين مثل ثقافة الأحياء الشعبية (شرائط الكاسيت الشعبي.. مثلاً) أو ثقافة التدين الشعبي التي يختلط فيها صحيح الدين بالخرافة، أو الثقافة الاستهلاكية (ثقافة المول) أو ثقافة الوسائط الإعلامية (الفضائيات والفيديو كليب والإنترنت وألعاب الفيديو..) إلى آخر هذه الظواهر الثقافية الجديدة التي أصبحت تشكل المصادر الجديدة الفاعلة في تشكيل الوعي الاجتماعي للكبار قبل الصغار بعد أن كانت الأسرة والمسجد والمدرسة تنفرد وحدها بهذا الدور.
وعلى العكس من الفروع التقليدية للعلوم الاجتماعية التي كان كل منها يتميز بنسق من الأطر النظرية والأساليب المنهجية التي تميز دراساتها، فإن الدراسات الثقافية هي تعبير عن موجة عارمة من الدراسات والإنتاج الفكري يقع بين العلم والفن، إذ تتعدد طرق مفكريها في البحث بما يستوعب المواهب التحليلية الفردية الخاصة بكل منهم دون أن تحصر نفسها بقالب نظري أو منهجي مصمت جامد، كما أن هؤلاء الباحثين أقبلوا على توظيف نظريات ومناهج الفلسفة والاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم ولكن بطريقة إبداعية دائماً.
ولذلك فإن شرح هذا الاتجاه الجديد لن يكون ممكناً إلا عبر الإشارة إلى نماذج من تلك الدراسات ولنختار منها على سبيل المثال تلك الدراسات النموذجية التي انصب اهتمامها على اتخاذ تطور المطبخ الهندي مدخلاً لفهم تحولات العلاقات الثقافية والنفسية بين الثقافة الهندية وبين ثقافة الاحتلال البريطاني، ويقدم كتاب (الدراسات الثقافية) الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة عرضاً ممتعاً لبعض هذه الدراسات.
فخلال فترات الاستعمار والاحتكاك الثقافي بين الطرفين، أنتج البريطانيون صورة نمطية ثابتة سلبية للآخر الهندي، فهو جبان ومخنث وغير جدير بالثقة، بل إن هذه الصورة السلبية تحولت لدى البريطانيين من مستوى الوعي إلى مستوى الحياة اليومية، إذ أصبح من المعتاد أن يعبر البريطانيون عن حالة من الاشمئزاز من رائحة الهندي التي كانت نتيجة طبيعية في الحقيقة لخصوصية المطبخ الهندي الشعبي الذي يعتمد على الكثير من التوابل خاصة الكاري، وهو ما تجسد في وضع هذا المطبخ في ذيل قائمة المطاعم من وجهة نظره البريطانيين لفترة طويلة، وإمعاناً في تشويه صورة الآخر، كثف البريطانيون فكرة راسخة لطريقة الطبخ الهندي التي وصفت آنذاك قذرة إذ تعتمد على الطهي في (البالتي) الذي هو إناء أو دلو ضخم عميق كان يستخدم في الأصل في الغسيل والاستحمام وتنظيف المراحيض الأرضية التقليدية في الهند.
ولكن في مرحلة تالية لفت نظر الباحثين الثقافيين تلك الجاذبية التي اكتسبتها فجأة تلك المطاعم الهندية وأكلاتها الشعبية في بريطانيا لدى قطاعات متزايدة من الشباب البريطاني الساخط على تقاليد الأرستقراطية البريطانية الراسخة، وذلك على الرغم من أن هؤلاء الشباب الذين كانوا يبدءون سهرتهم بالعبارة ذات الدلالة: لنذهب إلى كاري، كانوا عادة ما ينهون سهرتهم الممتعة بالتقيؤ مما تسمموه من طعام لم تتعود أمعاؤهم عليه!
أما اليوم فقد شهدت المطاعم الهندية في بريطانيا -وفي أنحاء العالم- تحولاً جذرياً جعلها ترتقي لمصاف أرقى المطاعم، لأنها ببساطة حققت انتصاراً ثقافياً حاسماً عندما أصبح (البالتي) -في مفارقة واضحة- يلعب دوراً ذا دلالة في الكيفية التي تبيع بها هذه المطاعم نمطاً من الأصالة والعراقة الحضارية لروادها المحترمين، وهو ذات الدور الثقافي الذي لعبه (التندور) وهو الوعاء الهندي التقليدي الذي يشبه مقلاة عميقة ذات يدين اثنتين، وتدريجياً لوحظ أن المقلاة الغربية المسطحة تقريباً وذات اليد الواحدة الطويلة حاولت أن تتظاهر شيئاً فشيئاً بأنها (تندور) إذ أصبحت أكثر عمقاً بشكل متزايد.
من ناحية أخرى لاحظ هؤلاء المحللون الثقافيون أن المطاعم الهندية مالت في الستينيات من القرن العشرين للاستجابة لمشاعر قطاع من البريطانيين -وكذلك بعض الهنود- الذين كانوا يعبرون عن نوع من النوستالوجيا أو الحنين إلى ماضي أو حلم الإمبراطورية البريطانية وعصرها الذهبي، وذلك من خلال استخدام هذه المطاعم لبعض الأسماء مثل (أيام الحكم الأخيرة)، ولكنها ما لبثت بعد ذلك أن عبرت عن أسماء تؤكد نوعاً من الاستقلالية والاعتزاز بالذات الحضارية الهندية وذلك من قبيل (تاج محل) أو (الحصن الأحمر... الخ) وهكذا تنجح الدراسات الثقافية في سبر أغوار العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية ورصد حساسياتها الدقيقة بدرجة تتجاوز في الكثير من الأحيان قدرة فروع الدراسات الاجتماعية التقليدية المعروفة، ومن خلال التحليل الثقافي لبعض مداخل الحياة اليومية التي قد لا يخطر على البال أنها تحوي في ذاتها القدرة على تفسير أعقد الظواهر.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* خبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة
F-elsaeed@hotmail.com