هذا فتى من أبناء الملوك، كما كانوا يقولون في القديم، هجر النعمة والترف، وتنازل عن الألقاب زهداً في الدنيا، وانصرف إلى الجهاد في سبيل الله، إلى أن قضى في إحدى الغزوات كأفقر من يكون من المجاهدين.
ولكنّ العامّة أبت إلاّ أن تنصّبه بعد وفاته سلطاناً، لا تذكر اسمه إلاّ مسبوقاً بلقب السلطنة.
فهو عندها، دوماً، السلطان إبراهيم! إنّه إبراهيم بن أدهم بن منصور، أبو إسحق التميمي، الزاهد المشهور. أصله، وهو الفتى العربيّ النسب، من مدينة بلخ في خراسان، وكان أبوه من مياسيرها.
تقول إحدى الروايات عن بداية زهده إنّه، بينما كان في إحدى رحلات الصيد المحبّبة إليه، أُلهم فراق الدنيا فجأة، فألقى ثيابه الفاخرة على أحد رعاة أبيه، ولبس جبّة الراعي، وساح في الأرض حتّى انتهى إلى ساحل بحر الروم.
هناك انضمّ إلى المجاهدين في الثغور، يحارب البيزنطيين إلى أن وافته منيّته بعد منتصف القرن الأوّل من الهجرة بسنوات قليلة.
أقواله في الحكمة والمواعظ كثيرة، وكذلك حكاياته. يتطرّق الخيال إلى بعض الحكايات، فيبتدع وينمّق فيها، وينطق بعضها بالصدق والواقعيّة البسيطة.
من بين هذه الأخيرة إليك الحكاية الآتية:
كان إبراهيم بن أدهم في دمشق قاعداً، في يوم شديد البرد من أيّام الشتاء، في مشرقة يتدفّأ بأشعّة الشمس، فمرّ به رجل على بغلة، تبدو عليه علائم النعمة والثراء.
عرف الرجل إبراهيم، بينما لم تكن لإبراهيم معرفة به.
قال صاحب البغلة: يا أبا إسحق، إنّ لي إليك حاجة، أحبّ أن تقضيها.
فقال إبراهيم: إن أمكنني قضيتها، وإلاّ أخبرتك بعذري.
قال الرجل: إنّ برد الشام شديد، وأنا أريد أن أبدّل ثوبيك هذين الرقيقين الباليين، اللذين تلبسهما، بثوبين ثخينين جديدين.
فقال إبراهيم: إن كنت غنيّاً قبلنا منك، وإن كنت فقيراً لم أقبل منك.
فقال الرجل: أنا والله كثير المال، كثير الضياع.
فقال له إبراهيم: إني أراك تغدو وتروح على بغلتك؟ قال: أعطي هذا، وآخذ من هذا، أعمل بالتجارة، وأزيد في مالي.
فقال له إبراهيم: قم، فإنّك فقير، ما دمت تجهد تبتغي الزيادة بجهدك!
26-8- 1993
***
* كتابات لم يسبق نشرها للدكتور عبدالسلام رحمه الله، بالتنسيق مع ابنة أخيه الدكتورة شهلاء العجيلي (حصلت الثافية على حقوق نشرها)