حتى لحظاتك الأخيرة كنت مهموما بالعمل الثقافي الأكاديمي، لقد رحلت فيما مؤتمر النقد الدولي في دورته الخامسة الذي أسسته بكلية الآداب بجامعة عين شمس تترى فعالياته بين أروقة قسم اللغة العربية الذي كنت أحد أوسمته الثقافية الكبيرة، حين حاضرت به، وألقيت على طلابه من ينابيعك العلمية الثرة. وحين أعطيته معنى آخر بإسهامك الكبير في هذا المؤتمر النقدي الدولي المهم.
لم أتتلمذ على محاضراتك بشكل مباشر، إنما على كتاباتك بدءا من هذا المؤلف التنظيري: (الأدب وفنونه) الذي ألفته وأنت ما تزال طالبا بالدراسات العليا، مع ذلك يعد مصدرا مهما لدارسي الأدب في العالم العربي وطبع أكثر من 12 طبعة.
تتلمذت عل ما أنتجته لنا من رؤى في كتاب: (الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية) والذي يعد أحد الكتب الثلاثة الرئيسية في قراءة تجربة الشعر الحر مع كتابي نازك الملائكة وإحسان عباس.
ما كتبته عن المسرح، والأسس الجمالية للإبداع، وعن النثر العربي، والتحولات النقدية، وما كنت تنشره بمجلة: (فصول) التي أسستها بدايات الثمانينات القرن العشرين، وأصبحت بحق مدرسة نقدية قائمة بذاتها.
كنت الناقد الأكاديمي الذي تواصل عمله وتفاعل ثقافيا عبر عدة أدوار، لم أكن أعلم يا سيدي أن هذه الملامح الغربية الشرقية معا التي تطل من سحنتك تخفي وراءها هذه الثروة النقدية الممنهجة، حين كنت أسمع اسمك أرتجف، وتعتريني قشعريرة كبيرة حين أصافحك مصافحة التلميذ لأستاذه ما بين ندوة وأخرى. لكن صدرك كان أوسع وأرحب، ففي ذات مرة في إحدى ندوات جمعية النقد الأدبي الأسبوعية وصفتني أمام الحضور من النقاد والأدباء بهذا الوصف الذي أعتز به: (شاب هادىء وذهن متوقد).
لم أكن لأجهل علمك النقدي الكبير البعيد عن الدعاية والصخب حين سألتك إجراء حوار معك، فقلت لي: أأدهشتك ملامح هذا الأجنبي - تقصد نفسك - ومصطلحاته الغريبة فجئت تحاوره؟
لا سيدي أعرفك منذ المرحلة الثانوية، فاسمك مكتوب ضمن لجنة إعداد منهج الدراسة الثانوية الأدبية، وهذا حفزني لقراءة بعض كتاباتك في المرحلة الثانوية خاصة: (الأدب وفنونه) و(الأسس الجمالية) وبعض المقالات الأخرى، وفوجئت بتدريس مؤلفك: (الأدب وفنونه) في السنة الأولى بكلية الآداب، وهذا ما دفعني للاقتراب أكثر منك، لكنك كنت بجامعة أخرى هي القاهرة، ولم أتشرف بحضور محاضراتك بجامعة عين شمس بعد عودتك إليها حيث كنت قد تخرجت في الجامعة.
هل هذا هو عز الدين إسماعيل الذي غرقت في كتاباته؟ فيه تواضع العلماء، وترفع الحكماء عن الصغائر؟
لم تكن تهمك الحياة الأدبية، بقساوتها أو لدونتها، بلعناتها أم بدعواتها، كنت تمضي في طريقك العلمي الذي مهدت له بروح شاعرية أعطتك معنى تجميل الحياة وتوسيعها.
لم تكن معاركك وكتاباتك تزلفا لمنصب أو لهوى أو لغرض كانت لوجه العلم والحقيقة. هكذا كنت رئيسا لهيئة الكتاب أو أستاذا للأدب والنقد، أو مؤسسا لجمعية النقد الأدبي التي شرفت بحضور عدد كبير من ندواتها، مصغيا لك باهتمام طالب العلم.
لم أكن أتخلف عن حضور ندوة ما من ندواتك لأستمع إلى هذا الصوت الرخيم يتحدث عن البنيوية والأسلوبية، ومعنى المعنى، والمفاهيم السسيوثقافية كما كنت تسميها، والحداثة وما بعدها، والميتا- كريتسيزم . كما كنت تردد.
بصماتك جلية واضحة في مسيرة النقد الأدبي العربي الحديث، وستبقى مؤلفاتك النقدية والشعرية علامات تؤسس لفكر عربي منهجي جديد ومغاير.
هكذا أستاذي العزيز برحيلك تنضم لقائمة الأحزان في روحي التي غصت بأسماء أصدقاء، ومبدعين، من كافة الأجيال خلال سفري هذا الذي طال ..، هكذا أفتقد أصوات أساتذتي الذين رحلوا في السنوات العشر الأخيرة ومنهم : رمضان عبدالتواب، إبراهيم عبدالرحمن، لطفي عبدالبديع، يحيى عبدالدايم، عبدالقادر القط، فإلى روحك وأرواحهم الطاهرة محبة وسلام، وإلى زوجتك الباحثة الفذة الدكتورة نبيلة إبراهيم الصبر والسلوان.
* رحل الناقد الأستاذ الدكتور عز الدين إسماعيل في الثاني من فبراير 2007م عن عمر يناهز 78 عاما بعد مسيرة ثقافية حافلة.
**
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244