لا يمكن تحديد الثقافة الاجتماعية بدون سياقها التاريخي؛ فلكل مجتمع ثقافته الخاصة، من داخل المنظومة التي ينتمي إليها، في إطار الثقافة العامة لهذه المنظومة، والثقافة الاجتماعية في منطقة الجنوب تشترك في العموميات، لكنها لا تخلو من وجود بعض الخصوصيات الثقافية، كجزء تعارف عليه المجتمع الصغير من داخله؛ ففي عمل عبد العزيز مشري الروائي الأول (الوسمية) نجد ثقافة عامة مشتركة بين كل سكان الجبال السروية، وخاصة بهذه المنطقة عن بقية أجزاء الجزيرة العربية، وهي ثقافة المدرجات الجبلية، القائمة على أمطار الخريف، أو الوسم، ولم تأت هذه الثقافة من فراغ، بل إنها موروثة عن حاجة الإنسان للغذاء من أجل الحياة، أو ما يسمى في زمننا (الأمن الغذائي)، وهناك حسابات معينة لنزول هذه الأمطار، معروفة من داخل هذه الثقافة، فإذا كانت الثقافة في حد ذاتها تعني المعرفة الواسعة والحذق بالشيء، فإن القرويين قد حذقوا ثقافة مصدرها التوارث والمران، فهناك ثقافة الحصاد، وما يتعلق بها من تبعات، كالدياسة، وذري الحب، بتخليصه من قشوره بعد أن تدوسه الحمير والثيران، عندما تهب رياح الجنوب، تلك الرياح المعتادة في مثل هذه المواسم، فلها حسابات معينة في ثقافة القرويين الزراعية، وهم يرددون الأهازيج والقصائد المحلية التي تعبر عن نشاطهم وما يعنونه، فيقولون في وقت الذري:
(يا رياح البيض هبي، وانصبي عمدانها إن قومي حين تهبي، ما ربح ديانها).
ولم يقف المؤلف عند حد الزراعة وطقوسها وثقافتها، وما يتعلق بالتعاون في مصطلحات ثقافية موروثة من العهود القديمة، فقد يتعاون الجيران في ضم حيواناتهم في خدمة الدياسة وجر بعض الأثقال من مكان إلى مكان، ومن لم يفعل يتحمل عيوب ما صنع.
ومن الثقافة الاجتماعية وجود الأسماء المتوارثة بكثرة في منطقة عن أخرى، مثل (صالحة، ورفعة، وفضة ومهرة...) من أسماء النساء، و(جمعان، وغرم الله، وسعيد..) من أسماء الرجال في منطقة الجنوب، بصفة عامة، وفي بلاد غامد وزهران، بصفة خاصة. وهذه ثقافة خاصة، وإن وجد منها شيء في مكان آخر، فقد حصل بواحد من اثنين، إما بالتشابه وإما بالنقل، أضف إلى ذلك التداوي بالأعشاب ومنتجات الألبان، وما تحتوي عليه البيئة من منتجات زراعية؛ فالشايب (جمعان) يعود بثوره من الحرث في يوم زراعي مشهود، وقد آلمه واحد من الشقوق التي فتحت في باطن قدمه طرقاً وأودية صغيرة، سببها الجفاف والسير على الأرض بدون حذاء: (وعلى عمد ألقى الشايب ببدنه المنهك على الفراش الممدود في ركن الحجرة، وقال: (آه يا عمري)، ثم استدعى حفيده الكبير وطلب قطعة دهن من جمع حليب البقرة، يأخذه من الجدة، فجاء الحفيد بها على راحة الكف، وكانت رائحتها تصن في الأنف، كما يصن شعر الجدة المدهون في الشمس، وقال الأب: (هات) ويشير إلى كعب قدمه اليمنى المتشقق، لطخ بها الحفيد ومسح على باطن الكف، ثم دعا بصوته وإشارة يده إلى (صالحة) لتكمل دعك قدميه، فجاءت وقعدت متربعة وعلى حجرها قدما الأب المقشرتان الجافتان). كما أن الكاتب قد اهتم بالفنون الشعبية، كجزء من الثقافة الموروثة، في المناسبات العامة، وقد نقل هذه الفنون كما هي، مثل العرضة، وأهازيج الحرب، والمواسم الزراعية، كما تعرض لموقف النساء من المشاركة في الحياة الاجتماعية، وأن لهن دوراً بارزاً في كل شيء حتى في الحروب التي كانت تدور في السابق بين القبائل.
وقد ذكر في سياق السرد الكثير من المصطلحات الثقافية، من بعض المفردات الغريبة، التي لا تعرف إلا في هذه المنطقة، مثل المحجاة، وهي جدار يقي المحارب رصاص العدو، وغيرها الكثير والكثير من المفردات التي اصطلح عليها سكان هذه المنطقة، كما اصطلح سكان مناطق أخرى على مفردات خاصة بهم؛ ولذلك نجد أن عبد العزيز مشري كان فاعلا في تاريخه الثقافي، وشاهدا عليه؛ ولهذا لم تستغرقه الأفكار المجردة، وإن مر بها فسرعان ما يتجاوزها إلى أرض الواقع، إلى ذكرياته، بآلية فنية تمزج الواقع بالمتخيل، كمحصلة فنية.
والرواية عند عبد العزيز مشري تختلف عنها عند أي روائي آخر، فروايته لوحات فنية ذات فضاء رحب، يتحكم فيها برؤية فنية تمكنه من جعلها قصة قصيرة، ورواية في الوقت نفسه، وهذه موهبة قلما يمتع الله بها عبداً من عباده.
من خلال دراستي لروايات المشري منذ أول عمل ظهر إلى آخر عمل، وجدته يعمل في مشروع واحد، مشروع الهجرة وترك الأرض التي تربى عليها إنسان هذه المنطقة من الجزيرة العربية، ولم يكن سفر أبنائها بدعاً في حياة الجزيرة العربية - على وجه الخصوص - وغيرهم من بلاد العالم على وجه العموم، فكل الناس يهاجرون تبعاً لوسائط العيش، وإشباع الرغبات والطموحات. كان ذلك قناعاً وضعه الكاتب على وجه الزمن ليقول من خلاله: هذه الحداثة في مواجهة الأصالة التي تنادون بها، وإن الحداثة لقادمة مهما كانت الظروف. هذا الهم هو الشغل الشاغل في روايات وقصص عبد العزيز مشري كلها؛ ففي مجموعته القصصية (أحوال الديار) تقول (مهرة) تخاطب قومها الذين هجروا الأرض وشغلوا في الحياة الحديثة: (هجرتم ثمرة التراب، ونسيتم الزرع والحصاد، وخرجتم من بيت الحجر والطين إلى الأسمنت والحديد، وقلتم: اركضي خلفنا يا (مهرة) لا في الفم ولا في الجيب. قلت: ألحقكم، الولد يكبر، والقلب لا يفتر، أزرع وأقلع وأبيع وأشتري وألم الأبيض والأحمر ولا أبيع أرضاً أكرمتني. خرجت عيونكم من محاجرها، وقلتم من العجب: امرأة تزاحم الشوارب تبني بيت الأسمنت والحديد).
هذه العبارات ذات معان متعددة، منها: الصراع بين القديم والجديد، على صورة التقليدي والحديث، ومنها: تجربة الغربة والعودة إلى الأرض في يوم من الأيام، ومنها حضور المرأة الجنوبية في الحياة اليومية...، لكنه يرى أن هذه الهجرة حتمية، كما بدأت حتمية في كتب التاريخ، ولنا عن ذلك حديث في الحلقة القادمة.