إن الناظر في واقع التمثل العربي للنظريات الغربية على اختلافها يجد أن من ذلك التمثل ما يحمل بالفعل سمات تميزه عن غيره، على الأقل عن النظرية كما ظهرت في بيئتها الأصلية.
البنيوية تحمل تلك السمات، تماماً كما يحدث في التقويض والماركسية وغيرهما.
لكن حمل النظريات للسمات العربية جاء في بعض الأحيان، وأخشى أن أقول أكثرها، متضمناً لعدد من المشكلات التي شوهت عملية التمثل. من تلك المشكلات سوء فهم النظرية في بعض النماذج، والسعي، في نماذج أخرى، إلى تطبيقها كما هي أو الاعتقاد بإمكانية ذلك أصلاً.
هاتان المشكلتان، ولربما وجدنا غيرهما، كافيتان لجعل التميز المشار إليه على غير الوجه الخلاق المفترض في تلك الحالة، الوجه الذي يتم بمقتضاه تبيئة النظرية أو تغييرها بحيث تستوعب متغيرات واقع مختلف.
فالبنيوية، مثلاً، تفهم على أنها نوع من التحليل لا يختلف جوهرياً عن التحليل النقدي الشكلاني الذي عرف قبل مجيء البنيوية، والتقويض (التفكيك) يفهم بوصفه نوعاً من تفكيك النص لإعادة بنائه من جديد، وهكذا، أي بوصفه نقداً تقليدياً. والأمثلة على هذا وغيره كثيرة ويمكن العودة لمزيد من التفصيل حولها إلى كتابي استقبال الآخر: الغرب في النقد العربي الحديث (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2004).
عروبة النظرية في الحالات المشار إليها تتحقق عبر مفارقة التبني غير المستوعب للأصل وليس عبر التفاعل الخلاق. غير أن هذا بالطبع لا ينفي وجود نماذج مغايرة في تبنيها للنظريات الغربية، نماذج تحقق تميزها ليس من خلال الوصول إلى نظرية أو نظريات تحمل سمات الثقافة والظروف المختلفة، فليس لدينا، فيما أعلم، نظريات أعيدت صياغتها ضمن رؤية منهجية واعية أو لا واعية وخرجت بنتائج باهرة وجديرة بأن توضع على خارطة النقد الحديث بوصفها إسهاماً عربياً في تطور النقد الأدبي.
ما هو متميز هو أطروحات نظرية تعالج هذه المسألة أو تصدر عن وعي بإشكاليات التبيئة النقدية وبالطموح إلى ذلك. من تلك النماذج ما نجد لدى شكري عياد في سعيه لتبيئة الأسلوبية وفي مناقشته لإشكالية النظريات أو المناهج الغربية عموماً وقلقه الدائم تجاه مسألة يراها البعض لا تحتاج إلى نقاش أو قلق.
كما أن من تلك النماذج ما نجد لدى بعض النقاد المغاربة مثل: نجيب العوفي ومحمد براده وحميد لحميداني، وكذلك لدى الناقد المصري سيد البحراوي واللبنانيين سامي سويدان ويمنى العيد، على ما بين هؤلاء من تفاوت في درجة البعد أو الاقتراب من القناعات المشار إليها.
في تجربة عياد، الذي أعده رائداً للوعي ومساعي التأصيل في المناهج والنظريات النقدية، يبرز قلق المراوحة بين إمكانية تطوير نظرية نقدية تستلهم التراث العربي وصعوبة التوصل إلى ذلك.
فعياد الذي سعى إلى تأسيس (علم أسلوب عربي) في بعض دراساته هو نفسه الذي أثار الشكوك حول إمكانية ذلك.
يتضح ذلك في مقولتين يمكن اقتباسهما هنا، وكنت قد فعلت ذلك في مطلع الفصل الخاص بعياد ضمن كتابي استقبال الآخر: إنني أحاول أن أضع خلاصة دراساتي وتجاربي في النقد وحوله في مشروع نظري واحد مترابط الأجزاء، يتناول طبيعة العمل الأدبي، وطبيعة العملية النقدية، وخصائص لغة الأدب، وعلاقة الأدب بالإبداع الحضاري.
ذلك ما يقوله في كتابه على هامش النقد (1993)، وهو قول يؤكد ما سبق أن ذهب إليه عياد في كتابين سابقين هما: مدخل إلى علم الأسلوب (1982)، واللغة والإبداع: مبادئ علم الأسلوب العربي (1988).
في الكتاب الأول يشير عياد إلى أنه أعد الكتاب ليصير مدخلاً للدراسة الأسلوبية على أساس أن (النقد الأدبي في طريقه إلى أن يصير بدوره علماً)، وأنه (يحاول أن ينشئ في ثقافتنا العربية علماً جديداً مستمداً من تراثها اللغوي والأدبي...) أما الكتاب الثاني فيأتي لتتمة المشروع وتحقيقه.
لكن عياد هو نفسه الذي كان قد أعلن في أواخر الستينيات صعوبة مثل ذلك المشروع بل شكه في إمكانية تحقيقه، وذلك في أحد كتبه المبكرة:
أما ما لا يستطيع هذا الكتاب أن يقدمه إليك فلعل أهم ما يعنيك منه مذهب أدبي تستطيع أن تتبناه وتقول إنه مذهبك.. ولا شك أنك ترى لماذا لا يستطيع هذا الكتاب أن يقدم مثل هذا المذهب.
فالكاتب الذي يظل دائماً أبداً في حوار مع نفسه، لا يجيب عن سؤال إلا ظهر له عشرون سؤالاً.
هذا الكتاب الأخير على تقدمه في التأليف أعيد نشره عام 1994 مع مقدمة للمؤلف يؤكد فيها أن الكتاب ما زال يعني له الكثير، وكأن عياد يراه معبراً عنه في تلك المرحلة المتأخرة، غير أن المهم على أية حال هو أن الناقد الذي يسعى إلى مشروع نظري مترابط هو نفسه الذي يشكك في إمكانية ذلك وهو الذي لا يشعر بالارتياح إلى تلك النظريات المترابطة، بل التي يسخر منها، ويمثل لها بعدد من الاتجاهات منها البنيوية والتفكيكية (التقويض).
كل ذلك في الكتاب المتأخر نفسه.
ولعل الأكثر إثارة للدهشة أنه يجعل من بين الاتجاهات التي يسخر منها الاتجاه الأسلوبي الذي سعى إلى تبنيه في مرحلة سابقة: (ولكننا نقرأ ونسمع كلمات جديدة مثل: البنيوية والأسلوبية والتفكيكية والشكلانية، وتوابعها من إجرائية ومحاور رأسية وأفقية..إلخ) (على هامش النقد، ص126).
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5135» ثم أرسلها إلى الكود 82244