إذا كان المؤرخون يسجلون الأحداث بتفاصيلها وهم أنفسهم شهود عليها.. فإن النقاد والباحثين في كنوز الأدب هم فرسان التاريخ لحركة الأدب وسيرة الأدباء والمبدعين.. يرصدون حركة الأدب بعقل متألق ووجدان متقد وشعور مبدع، ويقدمون للأجيال رؤاهم عن حركة الأدب ومدارسه ومبدعيه ضمن سياق التطور في المجتمع في أزمنة وأماكن مختلفة، ويحللون علاقة التأثير والتأثر في حياة الأدباء على ضوء طبيعة المجتمع والمد والجزر الثقافي في الوطن ومدى تواصل الأدباء مع الأدب في الخارج من خلال الاحتكاك الثقافي.
حبيبنا الدكتور منصور بن إبراهيم الحازمي أحد أبرز الرموز الأدبية والنقدية التي التحمت بنسيج الإبداع موهبة وعلماً.. عقلاً ووجداناً وصدقاً، وبناءً علمياً يجتمع فيه الذوبان في المحلية واستيعاب حركة الأدب في الخارج خاصة العمق العربي، فنلاحظ إخلاصه في رؤاه النقدية بنفس صدقه في إبداعاته ورؤاه الأدبية من خلال الشعر والرواية والنقد والإسهام في المنتديات والندوات المتخصصة داخل الوطن وخارجه، وقد استحق التكريم أكثر من مرة من خلال حصوله على ميدالية الاستحقاق من الدرجة الأولى في المملكة بأمر من خادم الحرمين الشريفين عام 1982م، ثم الميدالية الذهبية الكبرى من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ووسام تكريمي من مجلس التعاون الخليجي، وفي عام 2001م نال جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي.
لا أريد أن أخوض في سيرته الذاتية الثرية أستاذاً جامعياً للغة العربية وآدابها ولا مبدعاً في مجالي الرواية والشعر ولا ناقداً، فالتعريف بقيمة وقامة أدبية مبدعة كالدكتور منصور الحازمي هو بمثابة تحصيل حاصل، أو كمن يقوم بتعريف المعرّف، فهو لا يحتاج إلى ذلك بقدر ما يدعو دائماً إلى وثبة وتأصيل وتفعيل للأدب العربي عامة والأدب السعودي خاصة، ولكن بواعث حديثي وخواطري هذه هي أنني قبل أيام سعدت برسالة كريمة من أستاذنا الدكتور منصور مشفوعة بإصداره الجديد المعنون (ما وراء الأطلال)، وحقيقة كنت بحاجة إلى مثل هذه الرحلة الممتعة في تاريخ الأدب التي يأخذنا فيها الدكتور منصور إلى محطات أدبية جميلة توقف فيها شاعرنا وأديبنا العزيز عن سياق تطور الحياة وانعكاسه على الأدب، ويأخذنا إلى أطلال أدبية واجتماعية وثقافية وصحفية عن مجتمعنا في الماضي خاصة في الحجاز، ورصد لنا العلاقة الحميمة بين المكان والزمان وكيف تفاعل معها الأدب السعودي ومدى التفاعل والتلاقح مع التيارات الأدبية العربية آنذاك وقت أن كان الأدب هو الجسر الأوثق والأجمل في حركة الثقافة من خلال الكتاب والصحافة الأدبية في ذلك الزمان.
كتاب (ما وراء الأطلال) قدم لنا الدكتور الحازمي من خلاله ما هو أبعد من الأطلال بالتفسير والقراءة الأدبية والرؤى النقدية في أكثر من مكان وعن أكثر من إنتاج أدبي، بل وأبحر في أعماق الإبداع للعديد من الروائيين والشعراء ومراحل التطور المحكومة بمساحة الأدب والحرية والتأثر بالعولمة. لقد تضمن الكتاب الجديد للدكتور منصور وقفات رائعة متعمقة عن الموضوعات والقضايا التالية: (واقع الثقافة في المملكة.. من رواية الماضي إلى رواية الحاضر.. فن الكتابة في تاريخ الأدب.. المرأة المكية في سرديات السباعي). ومن الموضوعات التي تناولها أيضاً: (قضايا الإصلاح في صحيفة صوت الحجاز.. دلالات الإقليم والوطن في دراساتنا الأدبية.. الصحراء - الوطن في عيون الآخرين.. كيف يدخل العرب القرن القادم.. الفن القصصي في العالم العربي.. العرس النبطي وقضية الفصحى.. بلادنا بين الصحوة والأدلجة.. صورة الحج في الرواية السعودية)، وغير ذلك.
تلك الموضوعات قدمها أستاذنا الدكتور منصور برؤية نقدية عميقة وجرأة وحيادية، واستطاع بعلم الأكاديمي وخبرة الناقد ورؤية الأديب أن يربط بمهارة عالية وشمولية مدى تلاحم ساحة الإبداع بسياق المجتمع في مراحل مختلفة، بل مراحل التطور في الرواية والشعر وما يعكسه ذلك من معالم التغيير في المجتمع؛ لذلك أرى الكتاب الجديد (ما وراء الأطلال) قيمة أدبية عظيمة للمكتبة العربية لمن يريد المزيد من المعرفة والإطلالة الأكثر وضوحاً عن الأدب وعلاقته بالمجتمع وعن العديد من الأدباء، ولعلنا نقرأ مثالاً لذلك عن تطور الرواية السعودية، حيث قدم لنا المساحة والمسافة في الحرية ولغة الإبداع بين جيل الدمنهوري وجيل الدكتور غازي القصيبي في روايته (شقة الحرية) التي تمثل مرحلة من مراحل الأدب والأدباء.
إن الدكتور منصور الحازمي وهو يصطحبنا إلى (ما وراء الأطلال) يضفي على عقولنا ومخيلتنا قبساً جميلاً من شخصيته الثرية علماً وأدباً وإبداعاً وبلاغةً، بأسلوبه السهل الممتنع في جمالياته التي تغذي العقل وتحلق بمخيلة القارئ دون منحنيات، ولا غرو في ذلك، فهو كما وصفه المثقف السعودي المعروف الأستاذ خالد محمد الخنين: (أستاذ جامعي معتق، وناقد وروائي محلق، وشاعر يبدع الكلمة الهادفة والجميلة، شاعر له رؤيته وخصوصيته الإنسانية، يرسم ملامح القصيدة، كمن يرسم في فنه المتميز لوحات رائعة الشفافية والجمال، وهو إلى جانب هذا شاعر عربي ووطني يتلمس قضايا أمته ووطنه، ويرصد الحالة القائمة التي تحياها الأمة في هذا العصر البائس والحزين.. قصائده تنبع من وجدانه الحي المتمكن من صياغة صوره الشعرية برهافة وحرفية بهيتين، وهو من أبناء الجيل الذي حمل معاناة العصر على كتفيه وفي أعماقه النازفة دماً ومرارة وأسى، يكاد القارئ يدخل عالمه الشعري من أوسع أبوابه المملوءة بروح الشعر والحياة. وهو قارئ لشعر التراث الأصيل؛ لذا نلمس في شعره إسقاطه التاريخي على أسماء من أولئك الأوائل الذين تركوا لنا زاداً من الشعر والعطاءات العظيمة).
شكراً لحبيبنا الدكتور منصور بن إبراهيم الحازمي على الإهداء، بل الشكر الجزيل له على هذا الإصدار القيم للمكتبة السعودية والعربية، حيث يقدم للباحثين والنقاد السعوديين والعرب بانوراما جميلة عما وراء الأطلال في حركة الأدب والمجتمع داخل المملكة، وإطلالة دقيقة وموضوعية عن واقع الثقافة في المملكة ومتغيرات العولمة بالنسبة للأدب العربي.
حكمة
اصبر ففي الصبر خير لو علمت به
لطبت نفساً ولم تجزع من الألم