أ.د.صالح معيض الغامدي
في أحيان ليست بالقليلة تشكل حادثةٌ مهمة واحدة تحدث لشخص ما مرتكزا رئيسا لسرد سيرته الذاتية الكاملة أو على الأقل لمعظمها. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه السيرة الذاتية ذات الحدث الرئيس الواحد. وفي تراثنا العربي الإسلامي نماذج كثيرة من هذه السيرة المكثفة التي تأتي في أشكال مختلفة، ولعل من أقدمها قصص إسلام كثير من الصحابة رضوان الله عليهم، إذ تشكل كل قصة يسردها كاتبها سيرة ذاتية ذات حدث رئيس واحد، وهو اعتناق الإسلام أو تغيير العقيدة. وعادة ما يسرد هؤلاء الأشخاص طرفا من حياتهم قبل الإسلام وقصة إسلامهم والتغييرات التي تحدث في حياتهم الجديدة، وتكون تجربة اعتناق الإسلام هي التجربة الحياتية المركزية التي تُستدعى فيها وحولها التجارب الحياتية الكاملة. ويمكن الاستشهاد هنا بنموذج واحد وهو قصة إسلام الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه في الحديث المشهور الذي رواه ابن عباس عنه.
ومن النمادج الجميلة لهذا النوع من السير سيرة أم المؤمنين عائشة التي ترويها في حادثة الإفك، فلقد روت هذه الحادثة في حديث طويل سرد بضمير المتكلم وصفت فيه أحداث القصة كما حدثت لها، طلبا للدفاع عن نفسها من الشكوك الباطلة التي أثارها البعض، مشيرة فيه إلى بعض جوانب سيرتها قبل الحادثة وأثنائها وبعدها، وبخاصة عندما نزل القرآن الكريم مبرئا لها.
ومن النماذج الأخرى لهذا النوع من السير الذاتية سيرة الصحابي الجليل كعب بن مالك، أو ما يعرف بحديث كعب بن مالك، الذي روى فيه كعب قصة تخلفه عن المسير مع الرسول وصحابته في غزوة تبوك رغم اعترافه بقدرته الجسدية والمادية على ذلك، وانتفاء الأسباب التي تعيقه عن السفر معهم، وقد قاطعه الناس بسبب ذلك، لكنه صبر حتى جاء القرآن معلنا توبته.
ولعلنا نختم هذه النماذج بالإشارة إلى سيرة أبي حيان التوحيدي ذات الحدث الرئيس، التي رواها في الرسالة التي كتبها ردا على رسالة القاضي أبو سهل على بن محمد الذي أرسل له يعذله فيها على حادثة إحراق كتبه. فقد أورد التوحيدي في هذه الرسالة الذاتية كثيرا من المبررات المرتبطة ليس بهذه الحادثة فقط، بل بأحدث حياته الماضية كلها، فهذه الأحداث الحياتية الصعبة هي التي دفعت التوحيدي إلى القيام بهذا العمل الفضيع، ولو أن هذا الفعل ربما كان مجرد فعل احتجاجي على طبيعة معيشته القاسية وعلى عدم حمده لكثير من الناس الذين عاش معهم وبينهم، بل وعلى كثير من الأعمال النفاقية التي أجبر (أو أطمع) على القيام بها وهو يكرهها. فهو يعلم ونحن نعلم أن كتبه كانت قد انتشرت وذاعت قبل عام 400 هـ وهو العام الذي كتب فيه هذه الرسالة، وفقا لما ذكره ياقوت الحموي في كتابه (معجم الأدباء) حيث وردت هذه الرسالة.
ويمكن تحديد أبرز سمات هذا النوع من السير الذاتية على النحو الآتي:
1- الحدث الرئيس الواحد: فكل هذه النصوص السيرذاتية تتمحور حول حادثة رئيسة واحدة يكون من شأنها إحداث تغيير كبير في حياة كاتبها، وقد يكون هذا التغيير إيجابيا كما رأينا في أغلب النصوص المشارإليها، وقد يكون سلبيا كما هو الحال في سيرة التوحيدي.
2- توظيف ضمير المتكلم: يوظف ضمير المتكلم في كل هذه النصوص كلها سواء كتبها أصحابها أم رووها مشافهة وكتبت لاحقا. وضميرالمتكلم كما نعلم من أهم سمات النص السيرذاتي.
3- القصر والتكثيف: تميزت هذه النصوص السيرذاتية بالقصر النسبي، ولكنها جاءت في الواقع مكثفة وممتدة زمانيا بحيث تشمل إشارات عديدة إلى حياة مؤلفيها قبل الحادثة الحياتية الرئيسة وأثنائها وبعدها.
4 - قوة العاطفة الجياشة في السرد: تتميز هذه النصوص الذاتية بقوة العاطفة وصدق المشاعر وبراعة الأسلوب، ولذا بدت درجة تأثيرها عالية في القراء كما نعتقد.
5- شهرة الشخصيات التي كتبت هذا النوع: فأبطال هذه السير من الشخصيات المشهورة في مجالات مختلفة من مجالات الحياة.
6- الدوافع العلاجية، أو التحررية كانت هي الدوافع الرئيسة لرواية هذه السير او كتابتها، بالإضافة طبعا إلى الدوافع التقليدية الأخرى التي لا مجال للتوسع فيها في هذا المقال.
7- رويت أغلب هذه النصوص السيرذاتية أو كتبت ربما من باب التحدث بنعمة الله، والنعمة هنا ينبغي ألا تفهم في سياق إيجابية الأحداث الرئيسة في حياة أصحابها، بل في سياق المآلات التي انتهت إليها هذه الأحداث القاسية التي يروونها في حياتهم.