مكة المكرمة - خاص بـ«الجزيرة»:
أكد فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبدالله بن عابد الصواط أستاذ الفقه وخبير المجامع الفقهية أن خمول كثير من العلماء الراسخين وبعدهم عن الظهور إيثاراً للسلامة وتجنباً للشهرة، واحدة من أسباب انتشار الفتاوى الشاذة من قبل المتعالمين، مشيراً إلى أن كثرة المتعالمين وتجرؤهم على مقام الفتوى بسبب جهلهم بأهميتها وخطورتها ومكانتها في الدين، وغياب العقوبة الرادعة لهم.
وقال الدكتور محمد الصواط في حديثه لـ«الجزيرة»: إن المجامع الفقهية تعد مظهراً من مظاهر الاجتهاد الجماعي في العصر الحديث، وأن هناك مسؤولية اجتماعية ملقاة على كاهل البنوك والمصارف.
وتناول الحوار مع الدكتور الصواط العديد من الموضوعات المتنوعة في المجالات الفقهية.
جدير بالذكر أن الدكتور محمد الصواط واحد من العلماء البارزين في تخصصه، حيث قام بتحكيم أكثر من مئة بحث لمؤتمرات ومجلات علمية في داخل المملكة وخارجها، وتقلد عدداً من المناصب وعمل في عشرات اللجان العلمية، وله العديد من المؤلفات مع حضور ثر في المحافل العلمية من خلال مشاركاته في المؤتمرات والندوات والدورات المتنوعة.. وفيما يلي نص الحوار:
* من واقع خبراتكم في مجامع الفقه الإسلامية.. هل تعتقدون أن تلك المجامع عالجت كل المستجدات والتحديات التي تواجه المسلمين؟
- المجامع الفقهية تعد مظهراً بارزاً من مظاهر الاجتهاد الجماعي في العصر الحديث، وتضم نخبة متميزة من العلماء والخبراء والباحثين من مختلف الدول الإسلامية، وقد قامت بدور كبير في معالجة القضايا والمستجدات التي تعرض للأفراد والمجتمعات، وبيان الحكم الشرعي لتلك المستجدات وفق الأدلة الشرعية المعتبرة وتخريجا على مذاهب الأئمة واجتهاداتهم، والناظر في دورات المجامع الفقهية التي تعقد بشكل دوري يلحظ أن أغلب الموضوعات المطروحة - إن لم يكن جميعها - هي من قبيل النوازل والمستجدات الملحة التي تتطلب حكماً شرعياً سواء أكانت نوازل مالية واقتصادية أو طبية أو قضايا اجتماعية وثقافية، وأصدرت فيها قرارات وتوصيات مجمعية مطبوعة ومتداولة، كما أصدرت المجامع الفقهية كمجمع الفقه الإسلامي الدولي بيانات في القضايا العامة والأحداث الكبرى التي مرت بالمسلمين، كقضية فلسطين والمسجد الأقصى وحقوق الإنسان في الإسلام والعولمة والنظام العالمي الجديد والأوضاع في العراق والصومال والسودان، وغيرها.
* كنتم أحد أعضاء لجنة كتابة مدونة الأحكام القضائية.. بماذا خرجتم من تلك التجربة بشكل موجز؟
- كان لنا شرف المشاركة في كتابة مدونة الأحكام القضائية التي أمر بتدوينها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يرحمه الله - ضمن مشروع تطوير القضاء، وكنت أحد أعضاء لجنة قسم المعاملات المالية، ضمن كوكبة متميزة من القضاة وأعضاء هيئة التدريس المتخصصين في الفقه، وكنا نعقد اجتماعات متوالية في مقر المحكمة العامة بمكة المكرمة، تصل إلى ثلاثة اجتماعات أسبوعية لأجل إنجاز العمل المناط بنا، وفي كل اجتماع يعرض كل واحد من أفراد اللجنة ما كتبه على زملائه ثم يتم التداول والنقاش للوصول للصياغة الصحيحة للمادة الفقهية وفق منهج علمي موحد تسير عليه جميع المجموعات وقد تم إنجاز القسم الموكل إلينا صياغته في قرابة ثلاثة أشهر، وخرجت من هذه التجربة بفوائد جمة منها: الاحتكاك واكتساب الخبرة من القضاة المتخصصين، والعمل بروح الفريق والتعاون المثمر البناء للوصول للصياغة الفقهية الدقيقة، والتمرس على الصياغة القانونية المحكمة الموجزة، والوعي بأهمية تقنين الأحكام الفقهية والقضائية، إلى غير ذلك من الفوائد التي يضيق المقام عن تعدادها.
* قمتم بتحكيم أكثر من 100 بحث لمؤتمرات ومجلات علمية في داخل المملكة وخارجها. بصراحة ما البحث الذي استوقفكم من رحلتكم العلمية؟
- غالباً ما يكون للبدايات وقع لا ينسى، وأذكر أن من أوائل البحوث التي قمت بتحكيمها قبل ما يزيد على سبعة عشر عاما بحثاً عن قرينة البكاء وأثرها في الإثبات أمام القضاء، وهو بحث جيد وطريف في موضوعه.
* كيف يكون الفقه مواكباً لمستجدات العصر؟
- الفقه الإسلامي بطبيعته فقه حي متجدد، والأحكام الفقهية الاجتهادية التي دونها العلماء تعتبر من أفضل وأرقى ما كتبه العقل البشري بشهادة المختصين، وهذا الفقه مواكب لحاجات الناس ومستجدات العصر، وذلك بسبب عنصري الثبات والمرونة الكامنين فيه، فالثبات يتمثل في استناده إلى الأدلة الشرعية الثابتة من الكتاب والسنة، وهذه النصوص الشرعية شاملة لأحكام جميع الحوادث والنوازل إما بطريق المنطوق أو المفهوم، مصداقا لقوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)، ويقول الإمام الشافعي - رحمه الله - في مقدمة كتابه الرسالة: (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها)، وأما المرونة فتظهر في الأحكام الفقهية المتغيرة تبعاً لتغير الظروف والأحوال والعوائد، وقد عقد ابن القيم - رحمه الله - فصلاً نفيساً في كتابه إعلام الموقعين عن تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، ومما جاء فيه: (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل) وعليه فالمتعين على الفقيه أن يكون ابن عصره وألا ينعزل عن واقعه، بل عليه أن يتفاعل مع المجتمع وقضاياه تفاعلاً إيجابياً مثمراً بناء.
البنوك الإسلامية ما هي إلا وسيط بين المدخر والمستثمر، وليس لها دور في الأنشطة الاجتماعية، هل تؤيدون توظيف فائض رأس المال غير المستثمر لتحفيز التنمية الاجتماعية بطريقة تضمن إحداث أثر حقيقي في المجتمع الإسلامي المعاصر؟
- لاشك أن هناك مسؤولية اجتماعية ملقاة على كاهل البنوك والمصارف ومنها المصارف الإسلامية، وهذا نابع من كون هذه البنوك جزءاً من النسيج الاجتماعي للوطن، فلابد أن تساهم في بناء المجتمع وتطويره عبر تبني ودعم الأنشطة والبرامج المجتمعية، ومن ذلك على سبيل المثال: توفير فرص العمل للعاطلين، وإنشاء محافظ للقرض الحسن، ومحافظ لتمويل المشاريع الصغيرة والناشئة، وصناديق للعمل الخيري والأوقاف، وتمويل حملات توعوية للتكافل الاجتماعي ورعاية الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة، وتمويل برامج المؤسسات التعليمية والطبية ذات الطابع الاجتماعي، والاهتمام بقضايا البيئة والحماية من التلوث، إلى غير ذلك من المشاريع. ولاشك أن هناك جهوداً قائمة ومشكورة لبعض البنوك والمصارف ولكن نطمح إلى المزيد والأفضل في المستقبل.
* لكم دراسة بحثية عن التجديد في الدرس الفقهي.. فما أبرز نتائجها؟
- توصلت في هذه الدراسة إلى العديد من النتائج، منها:
أن للتجديد في الدرس الفقهي مجالين رئيسيين: التجديد في المضمون، والتجديد في الطرق والوسائل، ومن أهم ملامح التجديد في مضمون الدرس الفقهي: التجديد في المقرر الدراسي، والعناية بفقه النوازل، والتجديد في الأمثلة، والاستعانة بالعلوم المساعدة، ومن أهم ملامح التجديد في طرق تدريس الفقه: تحديث طرق التدريس القديمة بما يتواءم واحتياجات العصر، وابتكار طرق تدريس جديدة نابعة من الواقع والحاجة، كما تم الحديث عن مجموعة من طرق تدريس الفقه القديمة والحديثة، وبيان أوجه التجديد فيها مبسوطة في موضعها.
* ما أسباب العشوائية في إصدار الفتاوى ممن ليس لديهم شرعية الافتاء، وهل لابد من تقنين الفتاوى حتى لا تحدث عشوائية؟
- فوضى الإفتاء آفة منتشرة، سببها كثرة المتعالمين، وخمول كثير من العلماء الراسخين وبعدهم عن الظهور إيثارا للسلامة وتجنباً للشهرة، ولم يتجرأ هؤلاء المتعالمون على مقام الفتوى إلا بسبب جهلهم بأهميتها وخطورتها ومكانتها في الدين، وغياب العقوبة الرادعة لهم، وإلا لو علموا خطورتها حقاً لكانوا أكثر تهيباً لها وبعداً عنها، فالفتوى مقام عظيم في الدين لا يرتقيه إلا الراسخون في العلم، وهي توقيع عن الله كما يقول ابن القيم - رحمه الله -، ولا شك أن من السياسة الشرعية، جواز قصر الفتوى على بعض العلماء، كهيئة كبار العلماء أو من يمثلهم في المناطق، وهذا من باب السياسة الشرعية وهدفه تحقيق المصلحة من الإفتاء ودرء مفاسد الفتاوى الشاذة.
* يرى البعض عدم توجيه أموال الزكاة إلى الاستهلاك فقط عن طريق سد حاجات الفقراء من الطعام والشراب والمسكن والملبس، بل إلى التنمية البشرية عن طريق تمليك أدوات الزكاة، وما رأيكم؟
- العبرة في ذلك بأن يتملك الفقير مال الزكاة، فإذا حصل التمليك على أي وجه كان، جاز ذلك والله أعلم.
* يعد الوقف أحد الركائز الأساسية في تنمية المجتمع، كيف يمكن أن يقوم الوقف بدوره على الوجه المأمول؟
- الوقف من الأعمال الصالحة والصدقات الجارية التي يعود على المسلمين نفعها وإلى الواقف أجرها في حياته وبعد مماته، وللأوقاف دور مهم في المجتمع الإسلامي على مر العصور، وأسهمت إسهاماً فعالاً في تنمية المجتمع والقضاء على الفقر والحد من البطالة، ودعم التعليم والصحة، وتعزيز الأخلاق الحميدة، والحد من الآفات المجتمعية الخطيرة ومن أهمها الفقر والجهل والمرض، كما أسهم الوقف في تحقيق العدالة الاجتماعية والتكافل بين أفراد المجتمع، وتخفيف الأعباء الاجتماعية عن الدولة عبر تحمل المؤسسات الوقفية بعض المسؤوليات المناطة بالدولة، مما يسهم في رقي المجتمع وازدهاره.