الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
لا يزال البعض يوجه اتهاماته، ويبث آراءه الخاطئة عن صعوبة الجمع بين التفوق الدراسي في العلوم الطبيعية وبين العناية بحفظ كتاب الله تعالى.
«الجزيرة» استطلعت رؤى عدد من العاملين في الحقل القرآني ليتحدثوا من الواقع المعاش عن تلك الأقاويل المغلوطة، والدعاوى الزائفة؛ فماذا قالوا؟
التفوق والنجاح
يؤكد الدكتور عبدالله بن سليمان الجارالله: لم يكن القرآن الكريم يوماً من الأيام عائقاً لي عن الدرس والمذاكرة والتفوق والنجاح في الدراسات الطبية، بل على العكس من ذلك حيث كان حفظي للقرآن وعنايتي به من أهم الأمور التي كانت سبباً في مواصلة دربي وشق طريقي في دراستي للطب، فقد كان القرآن بركة حقيقة أدركتها في قاعات الدرس وجولات الاختبار سواء منها النظرية أو العملية، وكانت لي من القصص والوقائع الكثيرة التي لا أحصيها كلها شواهد على هذه العلاقة الحميمة بين حفظي للقرآن الكريم ودراستي للطب، كما كنت محل الإعجاب عند زملائي وأساتذتي، مما زادني شعوراً بالمسئولية ووجوب التفوق والنجاح. وفي الحقيقة فإني أربي أولادي على هذه الحقائق كما أوصي تلاميذي ومن يقرأ عليَّ أو يستشيرني، وأكبر رد على تلك الدعاوى هو ما شرفني الله به من الحصول على أعلى الدرجات العلمية في مجال الطب تزامناً مع حصولي على تلك الأسانيد العالية في مجال الرواية مع تخصصي في الدراسات القرآنية من خلال حصولي على درجتي الماجستير والدكتوراه في علم القراءات.
العلاقة العالية
ويشير الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهذلول رئيس جمعية مكنون لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة الرياض إلى أن العلاقة بين العلم والقرآن علاقة عالية الالتصاق، فلا يمكن أن يكون طالب العلم (أي علم) بعيدًا عن القرآن، ولا يمكن أن يكون صاحب القرآن بعيدًا عن العلم (أي علم)، فهما صنوان متكاملان، يهتف كل واحد منهما بالآخر ويناديه، فكلما ازداد صاحب القرآن منه ازداد من العلم، وكلما رغب صاحب العلم في الترقي بالعلوم كان محتاجًا للقرآن، ومؤدى ذلك أنَّ القرآن والتفوق الدراسي هما الأصل، والانفكاك بينهما هو الاستثناء.
صاحب القرآن يتزود به فيزداد إيمانًا وعلمًا، لأنه مشمول في قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وصاحب القرآن يزداد إيمانًا وعلمًا وخلقًا وأدبًا فترتفع درجاته، إذ الله يقول عن أخلاق أهل القرآن أهل العلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}.
صاحب العلم يستبصر في القرآن ويتفكر في ملكوت الله ليوثق علمه بإيمانه وليزداد إيمانًا، والله يقول عنهم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، وهو مستيقنٌ بما عند الله وما في قدرته ويزداد إيمانًا على إيمانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.
طالب العلم على بصيرة من أمر ربه وأنَّ القرآن هو المصدر الأساس فيسعى إلى تقوية الصلة بينهما، وهو بذلك وريث الأنبياء والمرسلين، فعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة، وإنَّ الملائكة لَتضعُ أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنَّ طالب العلم يستغفرُ له مَن في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإنَّ فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العُلماء هم ورثةُ الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ)).
والدارس الآخذ بكتاب الله متفوقٌ بإذن الله؛ ففي الحديث الذي يرويه أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله وملائكتَه وأهل السَّموات والأرض، حتى النَّملة في جُحرها، وحتى الحوت - ليُصَلُّون على معلِّم النَّاس الخير)).
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية (12/ 77) «كل علم ديني مع وسائله التي تعين على إدراكه، داخِلٌ فيما يَرفع الله تعالى مَن علمه وعمل به مخلصًا له عنده درجات، وأنَّه مقصود بالقصد الأول، وكل علم دنيوي تَحتاجه الأمَّة، وتتوقَّف عليه حياتها؛ كالطبِّ والزراعة والصناعة ونحوها، داخل أيضًا إذا حسنَت النيَّة، وأراد به متعلِّمه والعامل به نفع الأمَّة الإسلامية ودعمها، ورفع شأنها، وإغناءها عن دول الكفر والضلال، لكن بالقصد الثاني التابع، ودرجات كلٍّ متفاوتة تبعًا لمنزلة ذلك من الدِّين، وقوته في النَّفع ودفع الحاجة».
الأثر الجلي
ويبين عبدالرحمن الهذلول أن الدراسات العلمية أظهرت أثر القرآن الكريم وحفظه والأخذ به على التفوق الدراسي، ففي الدراسة التي أعدتها الإدارة العامة للبحوث التربوية بوزارة التعليم عام 1423هـ بعنوان: (دراسة مقارنة مستويات خريجي التعليم العام وخريجي تحفظ القرآن الكريم)، وقد تضمنت الدراسة اختيار اثنتي عشرة إدارة تعليمية في المملكة: (الرياض - الطائف - جدة - القصيم - الشرقية - عسير - بيشة - محايل عسير - تبوك - الباحة - جازان - صبيا)، ثم عقد مقارنة بين نتائج طلاب مدارس التعليم العام ونتائج طلاب مدارس تحفيظ القرآن الكريم التابعة للوزارة لثلاثة أعوام دراسية (1418هـ/ 1419هـ/ - و1419هـ 1420هـ/ - و1420هـ/ 1421هـ)، وقد أظهرت الدراسة تفوق طلاب مدارس تحفيظ القرآن الكريم بوضوح، حسب البيان الآتي:
- في عام 1419/1418هـ حصلت مدارس التعليم العام في المرحلة الابتدائية على نسبة (91.03)، وحصلت مدارس تحفظ القرآن على نسبة (93.74)، وعلى مستوى المرحلة المتوسطة حصل التعليم العام على نسبة (84.23)، وحصلت مدارس تحفيظ القرآن على نسبة (92.83)، وفي عام 1420/1419هـ حصلت مدارس التعليم العام في المرحلة الابتدائية على نسبة (92.30)، أما مدارس تحفيظ القرآن فحصلت على نسبة (95.24)، وعلى مستوى المرحلة المتوسطة حصل التعليم العام على نسبة (86.52)، أما مدارس تحفيظ القرآن فحصلت على نسبة (92.37)، وفي عام 1421-1420هـ حصلت مدارس التعليم العام في المرحلة الابتدائية على نسبة (92.65)، وحصلت مدارس تحفيظ القرآن على نسبة (95.13)، وعلى مستوى المرحلة المتوسطة حصل التعليم العام على نسبة (90.22)، وحصلت مدارس تحفيظ القرآن على نسبة (94.23).
ولاشكَّ أن القرآن بركة وهداية كما أنه علم وفصاحة، وهو لصاحبه المتمسك به رفعة في الآخرة مع ما يحصل له به من خير الدنيا.
تنمية المهارات
يقول المهندس عبدالعزيز بن عبدالله حنفي رئيس مجلس إدارة جمعية «خيركم» لتحفيظ القرآن الكريم بجدة: القرآن الكريم رسالة الله إلى الإنسانية كافة كتب الله له الحفظ والنقل المتواتر دون تحريف أن تبديل أو تغيير قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر (9)، ومن حفظ الله للقرآن الكريم حفظ أهله فهو كتابٌ مباركٌ، لذلك فإن حفظ القرآن الكريم له الأثر الكبير في حفظ الفرد والمجتمع حتى يصبحوا أكثر تميزاً في سلوكهم وآدابهم وأخلاقهم، فهم محصنون من الانحرافات السلوكية وكذلك في قلوبهم وعقولهم فيكونوا بهذا متميزين في علومهم قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} البقرة (282).
ولقد أكدت دراسة ميدانية سابقة بأنه كَّلما ارتفع مقدار حفظ القرآن الكريم في المجتمع ارتفع مستوى الصحة النفسية، وشملت الدراسة التي أجراها الأستاذ الدكتور (صالح بن إبراهيم الصنيع) أستاذ علم النفس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على مجموعتين: مجموعة (طلاب وطالبات) جامعة الملك عبدالعزيز بمحافظة جدة، ومجموعة (طلاب وطالبات) معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية التابع للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمحافظة جدة.
وأظهرت الدراسة الأثر الكبير على زيادة التحصيل الدراسي والتفوق، حيث إن أكثر من (75 %) من الطلاب الذين بدءوا الحفظ في سن مبكرة متفوقون في دراستهم، ويحصلون على المراكز الأولى في المدارس والجامعات، وأن ما يزيد على (60 %) من الحفظة يسلكون طريق التعليم الجامعي، بما في ذلك الكليات العلمية مثل: الطب، والهندسة، والصيدلة ويتفوقون فيها.
كما ذكرت دراسة أخرى أجريت في المملكة العربية السعودية بنتيجة تؤكد دور القرآن الكريم في تنمية المهارات الأساسية لدى طلاب المرحلة الابتدائية، والأثر الإيجابي لحفظ القرآن الكريم على التحصيل الدراسي في المستوى الجامعي.
وأوصت الدراسة بالاهتمام بحفظ القرآن الكريم كاملاً لدى الدارسين والدارسات في مؤسسات التعليم العالي، للأثر الإيجابي لهذا الحفظ على كثير من مناحي حياتهم وتحصيلهم العلمي.
لذلك ما يوجهه البعض من اتهامات خاطئة عن صعوبة الجمع بين التفوق الدراسي في العلوم الطبيعية وبين حفظ القرآن الكريم لا تستند للواقع وليس لها أساس من الصحة لأن حفظ الفرد والمجتمع للقرآن الكريم من أهم أسباب تفتح مداركهم العقلية والنمو المعرفي المبكر وظهور الطاقات الإبداعية وتقويمهم الدراسي، وهذا أمر ملاحظ وسبق أن قامت إدارة التوعية الإسلامية بوزارة التعليم بدراسة خلصت إلى أن 85% من البنين والبنات المتفوقين دراسياً هم طلبة تحفيظ القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم هداية ومعجزة، فهو منزل بلسان عربي مبين وفيه من العلوم والمعارف الدينية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية ما لا يعرف لكتاب غيره، فهو الخير كله للفرد والمجتمع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، لأن حفظ القرآن يربي الفرد على الجد وعلو الهمة ويقوده على تنظيم حياته وحفظ أوقاته والشعور بالمسؤولية. إن الحاجة ماسة في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى إلى العناية بالقرآن الكريم، وتفعيل تعظيم القرآن في المجتمع، لاسيما في ظل التحديات المعاصرة التي نراها اليوم حتى يضطلع المجتمع بمهماتها العظيمة في حفظ الفرد، ودعم أمن المجتمع وسلامته، والوقاية من الزيغ والانحراف، وإرساء القيم التربوية الصالحة، لأن إصلاح الفرد يستمد رسالته من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {هو الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.