في يوم الأربعاء 5 / 3 / 1445 الموافق 20 / 9 / 2023م وفي تمام الساعة 4:14 مساءً، تلقيت خبر وفاة والدي الشيخ المربي أحمد بن عبدالعزيز بن حمد السناني رحمه الله رحمة واسعة.
كانت لحظات قاسيةً على النفس، لحظات ترتجف منها القلوب، وترتبِك فيها حواس الإدراك مابين تصديق الخبر أو نفيه لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بوالدك.
ولكن من فضل الله ورحمته علينا أن للإسلام في تلك المواقف منهجاً سديداً، وتحل السكينة والصبر على المبتلى على قدر ألمه، مما يجعلنا أن نتَيقن في ساعات الفقد حينما تفقد والدك بالمعنى الحقيقي لـ{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
استشعرت حينها ألم الفقد الحقيقي.
وعندما فقدت أبي أيقنت أن أشد وأصعب ما قد يواجهه المرء في حياته هو فراق أحد الوالدين.
والدي لم يكن كأي رجل في نظري، لم يكن فقط مجرد أب، كان لي الأب الحنون، والصديق النصوح، والعضيد الذي نتكِىء عليه في متاعب الحياة، عاش في هذه الحياة 90 عاماً (1355 - 1445) ولكن شاءت أقدار رب العالمين أن أعيش معه فقط 36 عاماً.
جمع والدي - رحمه الله - مابين الدين والعلم والتعليم (ولا أُزكي على الله أحداً)، عاش 90 عاماً في هذه الحياة بين محاريب المساجد إماماً، وبين الانخراط في سلك التعليم معلماً ثم مديراً لابتدائية الملك عبدالعزيز بالمجمعة، حيث شَرُفَ بإمامة المصلين لمدة خمسين عاماً تنقل خلالها بين ثلاثة مساجد كان آخرها مسجد الزبير بن العوام، وخدم العِلم والتعليم لمدة تجاوزت الـ38 عاماً سطّر خلالها أنبل المواقف التربوية الأصيلة والعميقة، تخرّج وقت إدارته وقيادته مِئات الفُضلاء الذين تتلمذوا على يده، ونهلوا من علمه، وشهدوا له بدماثة الخُلق، وحسن السيرة، ونقاء السريرة، وهذا - بإذن الله - هو المكسب الحقيقي والإرث المُشّرف والأثر الدائم، سائلاً المولى عز وجل أن يجعل ماقدمه من خدمة للدين والتعليم في ميزان حسناته.
رحمك الله ياوالدي وقدوتي وجمعنا بك في الفردوس الأعلى من الجنة.
تعلمنا منه كأبناء وأحفاد عِدة خِصال، وكان يزرعها فينا فرداً فرداً بتمسّكه فيها وتطبيقه لها، وأهمها أن لا شيء يُعادل التمسك والتعلق والنجاة بالدين وطاعة رب العالمين، كان حريصاً جداً على صِلة الرَحِم، ويذّكرنا بها وبفضلها وأثرها في كل مناسبة وموقف، كان يسأل عن الصغير قبل الكبير، البعيد قبل القريب، كان رحمه الله يصل أرحامه من باب الوصل ومن هم أدنى من الأرحام من باب الإحسان، ويتكبد عناء السفر رغم موانعة الصحية والاجتماعية ويُلبي دعوتهم في المناسبات المختلفة ويشاركهم فيها، ويطمئن على مريضهم، ويقوم بواجب العزاء والمواساة في فقيدهم، ويأنس بلقائهم رجالاً ونساءً والسؤال عن أحوالهم، وفي إطار الأسرة وعلى الصعيد الأُسري كان يهتم لأمُورهم بأدق تفاصيلها، ويحرص على ترابطهم واستمرار لقاءاتهم تطبيقاً لمقاصد الشريعة، ويسعى جاهداً للصُلح والإصلاح سواءً داخل أسوار الأسرة أو خارجها ممن يتشَفعُ به، كما أَشهُد له بأنه رحمه الله كان نصوحاً للخير، وحنوناً وعطوفاً علينا كأبناء له ولغيرنا من الأقارب، وتلاميذه الذين عاصروه إبّان خدمته في التعليم.
جمعنا الله به في مستقر رحمته.
عند طفولتي كنت أراه رجلاً شجاعاً، وجبلاً شامخاً أحتمي به من عواصف الحياة، وسوراً عظيماً يصد عنّا منغصّات الحياة ومتاعبها، وعندما أصبحت شابّاً كنت أراه رجلاً موجهاً ومربياً حقيقياً ومرشداً لنا في أن نسلُك طرق النجاة من تقلبّات الحياة ومغرياتها، وناصِحاً بأن نعتدل في التمتّع بحياتنا، وأن ندّخر لآخرتنا، وأن لا تغرّنا دنيانا لتنسينا آخرتنا، وأن نراقب الله في كل أعمالنا، وكان يقوم بإيصال ذلك لنا بأحاديث شفهية، وأفعال شبه يومية، حتى تُغرس فينا طبعاً وتطبعاً.
تربينا في كنفه، وتعلمنا منه الكثير من حقول ومراحل الحياة الدينية والتعليمية والاجتماعية.
اللهم صبراً على حياة تمر دون والدي.
كان والدي رحمه الله، حريصاً على تطبيق سنن نبينا صلى الله عليه وسلم ويحثّنا عليها وكأنها إحدى اهتماماته اليومية، وفي أدق تفاصيلها دون ملَل ولا كلَل، ويحثّ من حوله من الأقارب والأصدقاء على اتباعها وعدم هجرها، لم يتهاون يوماً في قيام الليل حتى في أيام شدة مرضه.
جعلها الله أُنساً له في قبرة، ورفعة له في درجاته.
رأينا فيه - رحمه الله - حنانهُ وعطفهُ على الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، يتفقدهم ويحتويهم بالخفاء، يسأل عن أحوالهم باستمرار، يسعى لخدمتهم وقضاء ديونهم بمشاركة رجال الخير، وفي يوم من الأيام قال لي رحمه الله (الفضل يعود لله ثم لهؤلاء المحتاجين عندما يتوجهون لمنزلنا واختارونا لقضاء حوائجهم، وأن سخّرنا الله لخدمتهم، والقيام باحتياجاتهم) ونيل مايكتبه الله لنا من الأجر والمثوبة، اتباعاً لقوله تعالى {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله تعالى {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
رحم الله والدي، وجَبر كَسر قلوبنا على فراقه، افتقدناه وافتقده مئات المساكين والأيتام والأرامل الذين توافدوا حشوداً معزين في وفاته (فالله لايُضِيعُ أجر من أحسن عملاً).
إن العين لتدمع والقلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربُنا، وإنا لفراقك يا والدي لمحزونون.
كان والدي - رحمه الله - من الرقاة الشرعيين الذين يساهمون في رقية من يحضر إليهم، كان يتوافد عليه أُناس كُثر لما يزيد عن 35 سنة، من شَتى الأجناس والأعمار، سواءً بمسجده بعد صلوات الفروض، أو في مجلسه المخصص لهذا الغرض بمنزله، لا أتذكر أنه اعتذر عن استقبال أحد قاصديه إلا في مرضه وسفره، كان يجتزئ من وقته المخصص لعائلته لكي يستقبل من يحضر إليه ويطلب أن يرقيه أو يستمع إلى شكواه ولم يتوانَ في ذلك قط.
اللهم اجعل كل ماقدمه لعبادك في مثقال ميزانه، وضاعف له الجزاء والمثوبة.
هذا هو الذي يبقى، والمعروف لا يبلى، والخير لا يُنسى، ومن زرع خيراً وجده، ومن بلغ المعروف حصده، أسأل الله جل في علاه أن يجعل والدي منهم.
واجه والدي - رحمه الله - العديد من المِحن والابتلاءات التي أسأل الله سبحانه أن يجعل صبره عليها رفعةً له في درجاته ومنها، فَقَد والده وهو في ينعان شبابه، ثم فقد والدته، ثم فقد أخاه الوحيد من أشقائه الرجال العم (حمد بن عبدالعزيز السناني)، ثم فَقَد شقيقته العمّه (سارة بنت عبدالعزيز السناني)، ثم فقد ابنه (أخي عبدالعزيز) ثم فقد زوجته الخالة الغالية (لطيفة بنت عبدالعزيز العسكر) رحمهم الله جميعاً، وأطال في عمر العمّه شقيقة والدي الغالية (شيخه بنت عبدالعزيز السناني) ومتعها بالصحة والعافية.
كُنت أراه في كل موقف من مواقف الحياة القاسية صامداً صلباً محتسباً حامداً وشاكراً لرب العالمين على ما قضاه وقدّره.
بجوار قبرك يا أبي كل القبور
تأنست بالخير والإحسانِ
أما المنازل يا أبي فتحولت
قبراً بفقدك عالي الجدرانِ
هو ذا فؤادي قبر روحك يا أبي
ودع التراب يلف بالجثمان
فالجسم يبلى والخلود لروحٍ
من ربى بروحي بذرة الإيمان
أما من جانب المرض، فكل إنسان من الطبيعي أن يمر في حياته بأيام يتعرض فيها إلى وعكات صحيه متنوعة، مابين خفيفه إلى شديدة، وكل هذه الابتلاءات لم تُسن إلا لحكمةٍ من رب العالمين، ليؤجر الصابر عليها، ومنها تكفيراً لذنوب المؤمن، ورفعةً في الدرجات كما ثبت في الصحيحين عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه»
كان والدي رحمه الله صبوراً صبراً عجيباً في مرضه، قوياً في بأسه، يحمد الله كثيراً ويكاد الحمد لايفارق لِسانه، لم أرَه يتشكى يوماً من ألم ومرض، رغم معرفتي الدقيقة به بحكم قربي الدائم منه، ويقيني حينها بأنه في مراحل شديدة من المرض، ولكنّي أراه يكتفي بالحوقله ويعتبرها دواءً فعّالاً لكل ألم وداء، كنت أُصر عليه - رحمه الله - بأن يُبلغني بما يؤلمه حتى أطمئن عليه وأقوم بما يجب عليّ القيام به، فكان - رحمه الله - يقول لي عبارته العامية المعتادة (شئ بسيط ياوليدي، وعوافيه أكثر) وكان يقصد بها أن نِعم الله عليه وجانب العافية بالنسبة له أكبر وأكثر من الألم والمرض.
لا أُبالغ إن قلت إنني كنت أراه مدرسةً عظيمةً في الصبر والاحتساب.
لم أرَه في حياتي يشتكي لمخلوق قط، فكان يشتكي لربه فقط وكنت أسمعُ فحيح صوته في قيام الليل وهو يناجي ربه بإلحاح، وبقلب حاضر، ونفسٍ خاشعة، وعين دامعة، يسأله من فضله وعفوه ومغفرته وجنته له ولوالديه ولذريته.
كان والدي متعلقاً بإمامته للمساجد، وللرقية الشرعية التي يخدم فيها قاصديه، للحد الذي جعل أحلامه وقت نومه عبارة عن إقامةٍ للصلوات، وتلاوةٍ للقرآن، ورقيةً شرعية، ورأيت ذلك خلال مرافقته بالمستشفى خلال فترة مرضه، فقد كان يقيم الصلاة ويتلو القرآن وهو نائم.
رحم الله والدي رحمةً واسعة، وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة.
وعندما قبّلت جبينه أيقنت معنى الوداع الأخير، وعندما تم دفنه أيقنت معنى العجز.
**
- حمد بن أحمد بن عبدالعزيز السناني