فقد العمل الخيري التطوعي أحد رجالاته البررة الذي عمل دون كلل أو ملل في نقل وتجهيز الجنائز الخاصة بجامع الراجحي بمدينة الرياض لمدة تربو على ربع قرن، ذلكم هو الشيخ حسن بن عبد الرحمن بن حماد البحيري الذي رحل عن دنيانا الفانية -رحمه الله- بعد مرض مفاجئ ألم به ولم يمهله طويلاً، وقد كانت حياة الشيخ حافلة بعدد من الأعمال تفرغ في ثلثها الأخير لعمل عظيم تطوع فيه لتجهيز الجنائز دون أن يتقاضى عليها ريالاً واحداً، ولمعرفتي بالشيخ حسن رأيت من الوفاء أن أكتب شيئاً من سيرته العطرة، فهو من مواليد محافظة المذنب بمنطقة القصيم، عاش طفولته وفترة من شبابه في المحافظة لينتقل بعدها إلى محافظة عنيزة لإكمال السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية، وينتقل بعدها إلى العاصمة الرياض في أواخر التسعينيات الهجرية للالتحاق بكلية التربية- قسم التربية البدنية- بجامعة الرياض آنذاك قبل تغيير مسماها إلى (جامعة الملك سعود) ليتخرج فيها في العام الجامعي 1401/1400هـ ويتعين في العام التالي لتخرجه معلم لمادة التربية البدنية في ثانوية اليرموك الشاملة، وقد تشرفت بأن أكون أحد طلابه في هذه المدرسة، وعلى الرغم من كونه لم يمض عليه سوى عام واحد في التعليم إلا إنه ترك لدينا انطباعاً جميلاً خاصة على طلاب (ملحق ثانوية اليرموك) وعددهم (300) طالب أشرف على تدريسهم في عام 1402هـ ، لينتقل بعدها في العام الذي يليه إلى جامعة الملك سعود في مستشفى الملك عبد العزيز الجامعي، وقد استمرت علاقتي بأستاذي أبي تركي لأكثر من 40 عاماً، كنت ألتقيه فيها بين الحين والآخر، وبحكم تخصص الأستاذ حسن بالتربية البدنية فقد عمل في مجال التحكيم في كرة القدم ونال الشارة الدولية وعرفه الناس طوال فترة تاريخه التحكيمي الذي استمر قرابة الـ (17) عاماً كسب فيها شهرة واسعة في المجال الرياضي، ولأنه يملك ضميراً حياً فقد ترك تلك الشهرة وغادر مجال التحكيم بسبب خطأ بعدم اتخاذ قرار قال فيه إنه لم ينم معه ليلة المباراة بعد مشاهدة اللقطة عبر التلفاز التي أصيب فيها لاعب النادي الأهلي عبد الرحمن أبو سيفين بكسر مضاعف في مباراة فريقه مع النصر والتي أقيمت في يوم الجمعة بتاريخ 29/5/141هـ ، ولأنه لم يتخذ القرار الإداري المناسب بإشهار البطاقة الحمراء لحارس النصر ترجل في اليوم الثاني معلنًا عبر جريدة الجزيرة اعتزاله مجال التحكيم، بل ولم يكتف بذلك بل زار اللاعب في جدة وقدم له اعتذره وتمنى له السلامة... وبعدها بفترة بدأ حياته الجديدة وتفرغ متطوعاً في تجهيز الجنائز وتفرغ لذلك في الثلث الأخيرة من عمره المديد الذي بلغ حين وفاته (66) عاماً، والتي وصفها بأنها الأجمل والأمتع في حياته، حيث يبدأ يومه في العمل التطوعي في الساعة السابعة صباحاً هو وفريق العمل معه لنقل الجنائز من ثلاجات المستشفيات التي يرغب أهلها بالصلاة عليها في جامع الراجحي ثم يقومون بتغسيلها وتجهيزها من قبل الرجال إن كانت لرجل أو نقلها للمغسلة المخصصة للنساء إن كانت لامرأة ليتم تغسيلها من قبل نساء متخصصات في ذلك، وبعد تجهيز الجنائز يتم وضعها في غرف خاصة مبردة للسلام عليها من قبل ذويها، قبل نقلها إلى الجامع للصلاة عليها ومن ثم تشييعها إلى المقبرة لتوارى الثرى... وهذا العمل يتم يومياً قبيل الصلوات الخمس المفروضة، وقد شاهدت ذلك مراراً وجربت ذلك بنفسي عند وفاة والدتي رحمها الله فقد اتصلت على الشيخ حسن - رحمه الله- في الساعة السابعة صباحاً بعد وفاتها قبل سنتين ونيف تقريباً وطلبت منه أن يرسل سيارة لنقلها لمغسلة الجنائز لتجهيزها، وفوجئت أنه حضر بالسيارة بنفسه ثم نقلها بصحبتنا إلى مكان التجهيز في الجامع وبعد الصلاة ركبنا بالسيارة وفوجئت إنه هو من يقودها للمقبرة، وهذا العمل يؤديه بشكل يومي مع الجميع، وقد زادت عرى المحبة مع الشيخ حسن بعد أن زامله ابني المهندس عمر قرابة الثلاثة أعوام حيث عمل الأخير مشرفاً على الشؤون الفنية في مؤسسة المنارة الوقفية التابعة لأوقاف الشيخ سليمان الراجحي وكان يحدثني كثيراً عن الشيخ حسن، وحسن خلقه، وتعامله، وقد تأثر به كثيراً وكان دائماً ينقل سلامه لي والذي لا يخلو من بعض القفشات الجميلة التي تعبر عن روحه الطاهرة، كنت ألتقيه كثيراً في الجامع وفي المقبرة، وأغبطه على عمله الذي اشتراه في سبيل مرضاة الله عز وجل، وقد زهد في هذه الدنيا بما فيها، وقبل وفاته تقريباً بعشرة أيام قدمت قناة الإخبارية برنامجاً متكاملاً عن حياته عبر من خلاله بصدق عن مسيرته التي ختمها بعمل يقربه إلى رضا ربه عز وجل، وقد كان صادقاً ومؤثراً في كلامه الذي كان حديث مواقع التواصل الاجتماعي، والذي تحدث في ثناياه عن الموت وقد دعا ربه أن تكون فيه خاتمته حسنة، وفي الحديث (خيركم من -طال عمره- وحسن عمله)، وأحسب أن الشيخ حسن لقي ربه بخاتمة حسنة نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً، حيث حس قبل وفاته بخزة في قلبه وهو يؤدي عمله المعتاد بمغسلة الأموات بالجامع ليراجع المستشفى ويقرر له عملية قسطرة قلبية، وقد زرته قبل وفاته بأربعة أيام بصحبة الابن عمر وحضور ابنه فهد، وكان بصحة جيدة وكانت روحه المرحة تملأ المكان استعرض معي فيها شيئاً من الذكريات أيام تدريسه لنا وكيف كان حب الطلاب له وعلاقته بهم، وبعد توديعه، خرج من المستشفى بعد يومين، واستقبل الزوار في مجلس منزله العامر حتى مساء يوم الثلاثاء، وكان يؤدي الصلوات المفروضة في المسجد المجاور لبيته حتى صلاة العشاء التي سبقت يوم وفاته، وقد لاقى وجه ربه صبيحة يوم الأربعاء مودعاً هذه الدنيا الفانية بعد أن ترك سيرة حسنة وختم حياته بعمل يغبطه الناس عليه، وقد غُسّل من قبل زملائه في نفس المكان الذي كان يغسّل الناس فيه، وتمت الصلاة عليه بعد صلاة عصر يوم الخميس 1445/2/29هـ، في جامع الراجحي في جنازة مشهودة وتم تشييعه من قبل خلق كثير اكتظت بهم مقبرة النسيم الذي ووري الثرى فيها، -غفر الله له- وجعل ما قدمه شافعاً له، ورافعاً لمنزلته في الجنة، وقد بادر محبو الشيخ حسن -رحمه الله- فور وفاته وأطلقوا حملة لبناء مسجد يحمل اسمه -رحمه الله- عن طريق جمعية العناية بمساجد الطرق، وتكلفة بناء المسجد (1,700,000) ريال وبدأت الحملة ولا تزال مستمرة عن طريق حساب الجمعية فجزاهم الله خير الجزاء، ولكون الجهة التي تشرف على المقابر بمنطقة الرياض هي أمانة منطقة الرياض فإني أدعو سمو أمينها الأمير فيصل بن عبدالعزيز بن عياف لتسمية أحد الشوارع باسمه نظير ما قدمه من عمل تطوعي من دون مقابل خلال ربع قرن من الزمان تكريماً له وتخليداً لذكراه، وتشجيعاً للعمل الخيري والتطوعي وأنا على ثقة ويقين باستجابة سمو الأمير الأمين لذلك، ختاماً غفر الله للشيخ حسن وعزائي لزوجة الفقيد وأبنائه تركي وعبدالرحمن ويزيد وفهد وبناته، وإخوته وأخواته وكافة أفراد أسرة البحيري وزملائه ومحبيه على هذا المصاب الجلل، والحمد لله على قضائه وقدره، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عزوجل وإنا على فراقك يا أبا تركي لمحزونون.
** **
- د. سعود بن عبد العزيز الكليب