محمد بن عيسى الكنعان
أقسى المفاجآت وأصعب اللحظات تلك التي تنتظر فيها بشارة الفرح فتسمع فيها نبأ الفاجعة، خاصةً إذ كنت بعيدًا عن موقع الحدث، ووحيدًا من المحبين الذين قد يخففون عنك وقع المصاب، وهذا ما حدث لي صباح يوم السبت، 17 صفر 1445هـ (2 سبتمبر 2023م)، عندما اتصلت بالأخ العزيز محمد الرشيد - وكنت خارج المملكة - أستطلع منه صحة خبر وفاة أخينا الغالي والصديق الوفي عبد الرحمن بن سالم الرشيد (أبو ماجد) - عليه رحمة الله - الذي كان وقتها يرقد بمستشفى الملك فيصل التخصصي منذ شهرين.
كنت أبحث عن كلمة (نفي) بين كلمات الأخ محمد، أو أنتظر عبارة فيها (تكذيب) خلال إجابته, لكن صوته المبحوح بالحزن والمثقل بالوجع كان أبلغ جواب، عندها أيقنت برحيل الغالي أبو ماجد، فلم أتمالك نفسي، فكانت دموعي تختلط بنحيبي؛ فبكيت عليه وحيدًا، وأنا أسترجع شريط الذكريات الجميلة معه، بكيت شخصيته الحبيبة وسمعته الطيبة، بكيت مواقفه المشرفة، وأحاديثه الراقية، بكيت تعليقاته العفوية، ولقاءاته الأخوية، بكيت حضوره الذي غاب من بيننا، وصوته الذي انقطع عنا في هذه الدنيا الفانية، وأدعو الله أن يخلف عليه بجنات النعيم، وأن يكتبه من الشهداء اللهم آمين. رحم الله أبا ماجد، رحم الله ذلك الرجل الخلوق، والإنسان النبيل، وجعل ما أصابه رفعةً له في الدرجات وتكفيرًا لذنبه.
كان من أحسن الناس أخلاقًا، ومن أرقاهم في التعامل، يُقابلك بابتسامته المعهودة، ويُمازحك بكلماته اللطيفة، وتعليقاته الخالية من أية سخرية أو نقيصة، لا يعرف التمايز العمري، فتجده مع الصغير والكبير؛ لذا أحبه الصغار والشباب قبل الكبار، كان - عليه رحمة الله - بارًّا بوالديه، وعطوفًا رحيمًا بعائلته، صديقًا لأبنائه (ماجد، وسالم، وخالد)، وحبيبًا لبناته (ديم، وريم، وريف)، ورفيقًا بإخوانه (سليمان رحمه الله، وإبراهيم، وناصر، ومحمد)، ومميزًا بين أصحابه وأصدقائه بسمعته الطيبة وذكره الحسن، كان يُحب الاجتماعات العائلية، والمناسبات الاجتماعية حتى غدا أيقونة أهله ومحيطه العائلي في حائل، فُعرف بينهم بلقبه (دحيم) أكثر من اسمه (عبد الرحمن).
تعود معرفتي الشخصية بالفقيد أبي ماجد عبد الرحمن الرشيد - عليه رحمة الله - إلى العام 1403هـ (1983م) - تقريبًا - بحكم زمالته الدراسية لشقيقي كنعان، ومع الأيام تطورت هذه المعرفة إلى علاقة أخوية، بحكم العلاقات الاجتماعية، وطبيعة المجتمع الحائلي. لكن النقلة الفعلية في علاقتي مع الراحل أبو ماجد كانت في نهاية العام 2003م (1424هـ)، فلا زلت أذكر الاتصال الهاتفي الذي جرى بيني وبينه - عليه رحمة الله - يطلب مني بطريقة الاستشارة والاقتراح - وهذا من خُلقه الرفيع - أن نُكوّن (شَبّة) من بعض الإخوة ممن أعرف ويعرف، والشبّة - لمن لا يعرفها - هي تقليد اجتماعي حائلي، أشبه ما تكون بالديوانية التي يجتمع فيها مجموعة من الرجال بشكل يومي؛ للتحدث والنقاش في موضوعات عامة وتناقل أخبار المجتمع والتعليق على الأحداث الاجتماعية الحائلية، وعادةً ما تكون الشبة في الليل، وتحديدًا بعد صلاة العشاء. وبالفعل تألفت الشبّة التي كانت تُعقد في بيوتنا بأحد أيام الأسبوع وليست بشكل يومي؛ نظرًا لطبيعة الحياة في الرياض وظروفها، وكان أول لقاء للشبة في منزل أبو ماجد يوم الثلاثاء 14 ذي القعدة 1424هـ (6 يناير 2004م).
من ذلك التاريخ توطدت العلاقة بشكل أقوى مع الفقيد الغالي والرجل الخلوق عبد الرحمن الرشيد - جعل الله منزلته في الفردوس الأعلى من الجنة - ودارت الأيام وتعاقبت السنوات حتى كان خبر إصابته بالمرض العضال (السرطان) في العام 2018م (1439هـ)، الذي نزل علينا كالصاعقة المفاجئة، فقبل اكتشاف المرض كان يشكو لنا من بعض الآلام الباطنية، وتعدد مراجعاته للأطباء، حتى كان التشخيص بهذا المرض الخطير، فكتب الله له السفر خارج المملكة مطلع العام 2019م؛ للعلاج على حساب الدولة - أعزها الله - في مستشفى (جونز هوبكنز) بمدينة بالتيمور في ولاية ميريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، فغاب هناك قرابة العام للعلاج، وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما عاد إلى الوطن في نهايات شهر أكتوبر من العام نفسه (2019م) وهو يتماثل للشفاء شيئاً فشيئًا، ثم كانت الفرحة أكبر بعودته لحياته الطبيعية، وعودته إلى الشبّة التي كان يحبها ويسألنا دومًا عنها. لا أبالغ إن قلت إنه كان هو روح شبّتنا، وعلامتها الفارقة باهتمامه بها ومطالباته باستمرارها، خاصةً عندما تنقطع لبضعة أسابيع. لكن أمر الله ماضٍ على الجميع، وقدره لا مفر منه، فقبل أيام من سفره المجدول إلى الولايات المتحدة الأمريكية دخل مدينة الملك فهد الطبية للفحص الاعتيادي، يوم الأربعاء 3 ذي الحجة 1444هـ (21 يونيو 2023م)؛ فأخبروه بوجوب بقائه، لأن حالته تستدعي ذلك لهبوط المناعة لديه؛ حيث تبين لاحقًا وجود سرطان في الدم، فصار يتلقى العلاج حتى تم نقله إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي لاستكمال العلاج هناك، وذلك يوم الأربعاء 22 المحرم 1445هـ (9 أغسطس 2023م)؛ فكانت تلك أيامه الأخيرة حتى توفاه الله، مساء يوم الجمعة 16 صفر 1445هـ (1 سبتمبر 2023م).
رحم الله أبا ماجد عبد الرحمن بن سالم الرشيد، فلم يكن شخصًا عاديًّا، بل كان رجلًا عصاميًّا، منذ أن تخرج متفوقًا - مع مرتبة الشرف الثانية - في كلية الهندسة بجامعة الملك سعود في الرياض عام 1409هـ (1989م) تخصص (حاسب آلي)، وبعد التخرج عمل محاضرًا بكلية الملك فيصل الجوية بالرياض، ثم حزم حقائبه لمواصلة تعليمه العالي؛ حيث ابُتعث عام 1411هـ (1991م)، في مجال الحاسب الآلي إلى جامعة (جورج واشنطن) بالولايات المتحدة الأمريكية، وبعد حصوله على درجة الماجستير استمر محاضرًا بضع سنوات بكلية الملك فيصل الجوية، ثم انتقل للعمل في شركة النقل البحري، وتاليًا التحق بالشركة السعودية للكهرباء رمضان 1417هـ (يناير 1997م)، واستقر وظيفيًّا فيها حتى تقاعده المبكر في ربيع الآخر 1444هـ (أكتوبر 2022م) بمنصب مدير إدارة الأمن السيبراني.
رحم الله من كان يجمعنا ليُسعدنا، رحم الله من كان يسأل عنّا قبل أن نسأل عنه. رحمك الله يا أبا ماجد، ستبقى - بمشيئة الله - في قلوبنا، وتجول بخواطرنا، ونتخيل طيفك حولنا. ما كتبت لا يوفي حق فقيدنا - عليه رحمة الله - ولكنها تباريح نفس مكلومة وحزينة على فراق أحد أحبتها.