المدينة المنورة - خاص بـ«الجزيرة»:
دعا الدكتور عبدالله بن محمد الجارالله رئيس الهيئة الإشرافية للمركز الخيري لتعليم القرآن الكريم وعلومه بالمدينة المنورة، مدرس القرآن الكريم والقراءات بالمسجد النبوي الشريف إلى تعاهد كتاب الله ومراجعته في كل وقت وحين، وهو يدل على الهمة العالية والرغبة الصادقة والمحبة المتناهية لهذا الكتاب العظيم، مؤكداً على أن الْفَتْحُ فِي الْقُرْآنِ يكون في طُولِ وكَثْرَةِ الْجُلُوسِ مع القرآن: (تلاوة، وتعلماً، وأداءً)؛ بمنهجية: (الترتيل، والتؤدة، والتمهل، والترسل، والتمعن)؛ لأنَّ كثرة الجلوس مع القرآن -بهذه المنهجية- هو في الحقيقة استجلابٌ للمطلوب؛ ووُقُوفٌ والْتِجَاءٌ وتَذَلُّلٌ ورَجَاءٌ بلسان الحال والمقال على باب مُنْزِلِهِ -عزَّ وجلَّ- من أَجْلِ التوفيق للمرغوب, وحصول المحبوب؛ وعلى هذا كان السَّلف؛ حيث كانوا يُدْمِنُون مجالسة القرآن, ويرددون الآية والجزء من الآية الساعات الطوال؛ بحثاً عن المعاني والفتوحات؛ واستجلاباً لعظيم التزكية والْبَرَكاتِ.
وقال د. عبدالله الجارالله إنَّ مَن لَمْ يَتَدَبَّرْ ولَمْ يَتَأمَّلْ ولَمْ يُساعِدْهُ التَّوْفِيقُ الإلَهِيُّ لَمْ يَقِفْ عَلى هَذِهِ الأسْرارِ العَجِيبَةِ المَذْكُورَةِ في هَذا القُرْآنِ العَظِيمِ، فهو كتابٌ: (مُبارَكٌ)؛ كَثِيرُ المَنافِعِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ؛ وبَرَكَتُهُ لازِمَةٌ؛ لِأنَّها بَرَكَةٌ لا تُفارِقُهُ بحال، وإنَّ مَنْ أكثر من مجالسة شيء لا بد أن يحصِّل له تأثرٌ بالزيادة أو النقصان؛ قال قتادة الدوسي رحمه الله: (لم يُجَالِسِ هذا (القرآن) أحدٌ إلا قام عنه بزيادة أو نقصان)، وقال الشيخ بن عثيمين -رحمه الله-: (متى تعوَّد العبد -والتعوّد لا يكون إلا بطول الصحبة والملازمة- تَدَبُّر كلام الله وفهم معانيه فتح الله عليه في أبواب العلم ما لم يفتحه لغيره)، وكان السلف الأخيار من الصحابة والتابعين قد (تَلَقَّوا) هذا القرآن العظيم على ما يليق به ويجب من الحفاوة والعناية والعمل والتعظيم؛ فعن الحسن بن عليّ -رضي الله عنه قال: (نزل (القرآن) ليُعمل به؛ فاتخذوا -يعني الصحابة والتابعين- تلاوته عملًا)؛ فهم قد باشروا (العمل) به؛ بـ(تلاوته) على الوجه المأمور في قول الله -تعالى-:(ورتِّل القرآن ترتيلاً). ولهذا تجَلَّت لهم (المعاني), وغُمِروا في (ملكوتٍ) من نور, و(عالمٍ) مِن الانشراح, و(جنة) من حبور وسرور، و(أدركتهم) البركات والخيرات, و(رقة) القلوب, و(انكشاف) الهم والغم والحزن والكروب، و(استقوا) منه لثبات قلوبهم، وخلوص أعمالهم وأخلاقهم.
وقد صحَّ الخبر عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: أنَّه قام بآية يرددها حتى أصبح، وهي قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118)؛ وصحَّ الخبر عن جَمْعٍ من الصحابة، أنهم كانوا يرددون الآية أو جزءاً منها بحثاً عن الفتوح الربانية في فهم المعاني وتدبرها؛ فعن تميم الداري -رضي الله عنه- أنه كان يكرر قوله تعالى: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (الجاثية: 21), حتى أصبح، وروى عبَّاد بن حمزة عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- أنَّه دخل عليها وهي تقرأ قول الله -تعالى-: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (الطور: 27)؛ قال الراوي: فجعلتْ تعيدها وتدعو، فطال عليّ ذلك فذهبتُ إلى السوق، فقضيتُ حاجتي، ثم رجعتُ إليها وهي لاتزال تعيدها وتبكي وتدعو). وصح الخبر بمثله عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تقرأ في الصلاة: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (الطور: 27)، وكانت تقول -وهي في صلاتها- على جهة الطلب والدعاء: مُنَّ عليَّ، وقِني عذاب السَّموم). وصحَّ الخبر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يردد قولَ الله تعالى: {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114)، وعن سعيد بن جبير -رحمه الله- أنه كان يردد قول الله -تعالى-: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ} (البقرة: 281). وهذه الآثار -وغيرها- تدلُّ على أنَّ: طول الصُّحْبَةِ وَالْمُكْثِ مع القرآن بـ(النية الصحيحة الخالصة) هو: الطَّريقُ الْأَوفَقُ في حصول المطلوب من الفتح والتَّوفيق في فهم معانيه, وتحقيق مراد الله -تعالى- فيه من تنزيله وإنزاله؛ فإنه ما أنزله -عزَّ وجلَّ- إلَّا: ليُفْهَم, ويُفْقَهَ، ويُعْلَم: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (ص:29).
وأشار د. الجارالله في ختام حديثه إلى أن القرآن الكريم هُو الْكِتَابُ المُنْبَثَّةُ فِيهِ البَرَكَةُ؛ والخَيْرُ الكَثِيرُ؛ فهل مِنْ مُدَّكر؟
نَرْجُو اللَّهَ القَرِيبَ المُجِيبَ، إذْ وفَّقَنا لِخِدْمَةِ هَذا الكِتابِ المُبارَكِ، أنْ يَجْعَلَنا مُبارَكِينَ أيْنَما كُنّا، وأنْ يُبارِكَ لَنا وعَلَيْنا، وأنْ يَشْمَلَنا بِبَرَكاتِهِ العَظِيمَةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وأنْ يَعُمَّ جَمِيعَ إخْوانِنا المُسْلِمِينَ،الَّذِينَ يَأْتَمِرُونَ بِأوامِرِهِ بِالبَرَكاتِ والخَيِّراتِ، في الدُّنْيا والآخِرَةِ، إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.