إنَّ طرح هذا السُّؤال ما زال يشعل الحرب الأزليَّة بين المرأة والرَّجل، بل إنَّ تلك الحرب امتدَّ أثرها فقسمتْ بني آدم إلى معسكرين، وكأنَّ هذه الحرب هي حرب الحقِّ والباطل، ففريقٌ أطلق أصحابه على أنفسهم مسمَّى (النَّسويَّات)، وهو فريق لم يقتصر على النِّساء فقط بل إنَّ أنصاره من الرِّجال فاق النِّساء، وهذا الفريق غالى في أفكاره ونادى بالعدل والمساواة للمرأة، ولكنَّه في الحقيقة حمَّلها أحمالًا فوق أحمالها، بل طلب منها القيام بأمور تخالف فطرتها.
فما كان إلَّا أنْ أمروا المرأة بأنْ تعمل على آلات؛ لتخرج جسدها الأنثوي من تكوينه، فجعلوها تقود الطَّائرات والدَّبَّابات وتُقاتل في عزِّ الهاجرة وصقيع الشِّتاء، فأصبحتْ تُدْعى بأنثى وهي غادرتها ملامح الأنثى؛ فلقد أخشوشن صوتها، وجلف جلدها، وتغيَّر لونها، ومشتْ مشية الرِّجال، فذهب منها بريقها، وخلقوا منها امرأة أخرى حادَّة الصَّوت، وغابتْ تلك الأنثى النَّاعمة ذات الجسم المتناسق والطَّرف الحيي والصَّوت النَّديِّ، لقد غابتْ تلك الأنثى فأضاعت المرأة هويَّتها وهي تبحث عن العدل والمساواة.
أمَّا الفريق الآخر فلقد راعه أفكار أولئك القوم، وخاف مِن ضياع سلطان الرِّجال على النِّساء وأنْ يستيقظوا يومًا فلا يجدون تلك المرأة المطيعة التي تحفظهم في غيابهم وحضورهم، وذلك السَّكن الذي ألفوه، وحُقَّ لهم أن يخافوا فغياب الأنثى مِن الوجود يعني الضَّياع للبشريَّة.
فجعلوا الدِّين سلاحهم في معركتهم تلك، وهل يخسر فريق اتَّخذ مِن تعاليم الخالق مصدرًا لقوَّته؟! لا والله.
فالمرأة أين كان دينها أو مذهبها أو حتى مبدؤها إذا كان الأمر من الخالق جلَّ شأنه فإنَّ 90 % من النِّساء يقفن مع أمر الخالق - سبحانه - الَّذي يمثلهُ في نظرهن رجال الدِّين، وهذا الفريق احتشد به الرِّجال من كلِّ مهنة ومجال وعقيدة، ولم يقل أنصاره من النِّساء عن الرِّجال، وما ذلك إلَّا لخوف المرأة مِنْ ضياع هويَّتها ومِنْ حَمْل أثقال وُضِعَتْ على كاهلها لا لشيءٍ إلا لينعم أشباه الرِّجال منها بما يريدون، فتلك المبادئ التي نادوا بها من عدل ومساواة لم تكن إلا غطاء لضلال أفكارهم ونزعة للتَّسلُّط والسَّيطرة بوجه آخر.
ولكن أصحاب هذا المعسكر خالفوا الحق وجانبوه، فلقد غالوا بمنع المرأة وحبسها، وكلُّ ذلك مِن باب سدِّ الذَّرائع، فلقد فُرِّق بين الأمِّ وصغارها بمسمَّى فقه الولاية، وحُرِمَتْ حقَّها من الميراث والتَّمتُّع بمالها تحت مسمَّى نقص العقل والدِّين، بل مُنِعَتْ من التَّجمُّل الَّذي هو مِن فطرتها التي فطرها الله عليها بحجَّة التَّبرُّج المحرَّم، بل قد لَبِسَتْ الأعراف والعادات لباس الدِّين فأصبح صوتُ المرأة عورة يجب ستره، بل قطعه، بل إنَّ ذِكْرَ اسمها عيبٌ وأمرٌ مستهجن، وهذا الشَرَك والخطأ الفادح وقع به أناس مشهود لهم بالعلم والدِّين، فكأن المرأة هربتْ مِنْ أتون فريقٍ إلى سجن الفريق الآخر، وكأنَّها لم تُخْلَقْ إلَّا لتتعذَّب بين تلكما المعسكرين.
وهذا أدى لظهور فريق ثالث وسرعان ما التفَّ حوله النِّساء بكلِّ عقل وحكمة وهرب إليه الرِّجال أيضًا؛ لأنَّهم مِن أولئك الذين ذاقوا ألم فقه الولاية أو تجرَّعوا مرارة الفقر في صغرهم مع أمَّهاتهم النَّاقصات العقول اللاتي حُرِمْن من أموالهن والتَّصرُّف فيها؛ فهرب أولئك الرِّجال إلى ذلك المعسكر الجديد، وبدأوا يبحثون في كُتُبِ الفقه ومصادر التشريع وينادون بالدِّين الوسطيِّ فخرج علماء ومفكرون لا يُشَقُّ لهم غبار فأصبح منهم مَن يشكِّك بعلم الأوَّلين ويقذفونهم بكلِّ ناقصة ورزيَّة وهؤلاء القوم وقعوا بأمرٍ خطيرٍ، فبدأوا بتغيير مصادر التَّشريع والتَّفسير بل بعضهم حَمَل وزر تكذيب أحاديث خير البشر، وهو يُنادي في المحافل الدَّوليَّة والعالميَّة بأنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بريءٌ من تلك الأقوال، بل إنهم لووا أعناق سُنَّة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - لتتوافق مع قوانين بشريَّة سيثبتُ المستقبل القريب خطؤها، فتَبَرُّؤوا من كلِّ قولٍ يخالف تلك القوانين، وما علم أولئك البائسون أنَّهم
إنْ كان الفريق الأوَّل جَانَبَ الفطرة السَّويَّة والفريق الثَّاني جَانَبَ الشَّرع الإلهيَّ
فهم فريقٌ مَسْخٌ حرَّفوا الماضي وأظلموا الحاضر.
هنا سرت همهمة بين الحضور ليعلو ذلك السُّؤال حتى وصل إلى أسماع تلك الأستاذة الجامعيَّة التي توقَّفتْ عن حديثها؛ لتستمع إليه، وإن كان أزعجها قطع تسلسل أفكارها في حديثها السَّابق.
فقال أحد الحضور: يا دكتورة، إذًا ما هو الحل؟!
هنا قالت الدكتورة: الحل يكمن بإجابة سؤالنا الأساسي لمحاضرتنا هذه، هل المرأة تحتاج إلى الرَّجل، فهل لديكم إجابة له؟
هنا انبرتْ فتاة في آخر المدرَّج ونهضتْ كما ينهض الأسد الهصور يدافع عن حماه، فقالتْ: أنا يا دكتورتي الفاضلة.
إنِّي فتاة نشأتْ في أسرة بسيطة فأظن أنِّي وجدتُ إجابة سؤالك ذلك في عَطْفِ أبي على أُمِّي، واحترام أُمِّي لأبي، فأبي هيِّنُ الجانب لأمي فأمِّي سيِّدة وملكة تأمر فتُطاع، تُحدِّد أولويَّات بيتنا وقواعد الحياة فيه.
والتَّربية لدى أُمِّي لها أصول وقواعد لا يخرج على سلطانها أي أحد، فأبي يحمي ملكته مِنْ أنْ تحتاج إلى أي شيء.
فهو القائم بأمرها المتعهِّد برعايتها، وفي المقابل تلك الملكة لا تَعْصي له أمرًا، ولا تثني له كلمة، ولا تُصَغِّر له شأنًا.
فإنْ يومًا اختلفا على أمرٍ ما وهذا قلَّما يحدث اتَّخذا مِن الحوار والنِّقاش والإقناع طريق الحل والاتفاق، فلا يخرجان مِن ذلك الحوار إلَّا وقد وجدنا المرأة المُحبَّة والرَّجل العاشق فكأنَّ ذلك الحوار وُجِدَ ليُجدِّد عهد الوفاء والإخلاص بينهما.
فأُمِّي لم تحتجْ إلى أن تخرج خارج حدود أنوثتها، ولم تَعِشِ الضَّغط؛ لتُثْبِتَ هويَّتها؛ لأن هناك رجلًا يعي معنى أن تكون في حياته امرأة أنثى ويؤمن بقول الحقِّ سبحانه:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الروم: الآية 21)
ما إن انتهت تلك الفتاة مِن حديثها حتى علا التَّصفيق لها، وقام جميع الحضور إجلال لجمال أسلوبها وصدق قولها.
ويبقى أن يقف أغلب المفكِّرين والعلماء والمثقَّفين وقفةً صادقةً مع أنفسهم ويكفُّوا عن تلك المعارك الضَّائعة، ويعلموا أنَّ المرأة لن تكون لها حياة من دون الرجل، والرجل لن يكون له حياة من دون المرأة.