قدمت إلى هذا العالم المُبلل بالضوضاء محملاً بالخيبات والفشل! قدمت منكسراً كضوء شاحب فشل في هزيمة الظلام!
تلاشى النهار الذي جاء برفقتي، وتركني لقمة سائغة تمضغها الأيام بشراهة! أحاط الليل بجسدي العاري, نفذ الظلام لذاكرتي فنسيت أن أمشي كباقي الأطفال، نسيت أن أقف! نسيت أن أرتدي المشاعر، وبقيت لعدة سنوات طريحاً في زاوية وجودية محجوبة، حينها اعتقد الجميع أن المرض تمكن مني بينما في حقيقة الأمر أنا من تعمدت ترك جسدي هناك دون استخدام.
وبعد ست سنوات خطوت أولى خطواتي على هذا العالم الهش وكأن النهار الذي جاء بي عاد مرة أخرى ليربت على كتفي! حملت جسدي المنهك وسرت على ساقين نحيلتين وبين السقوط والاعتدال جُبت الأماكن المتسخة بلحظات وذكريات البشر! مشيت مترنحاً مجبراً رغم يقيني بأن المشي في حقيقته ما هو سوى حيلة ابتكرها الزمن كي يندفع الإنسان بحماسة نحو الغروب، ويترك خلفه مساحات هائلة من الخوف قادرة على ابتلاعه في يوم ماء، لذا حاولت عابثاً أن أصنع من ذراعي المرتعشين جناحين وأحلق بعيداً رفقة الطيور المهاجرة ولكن الأحلام والأمنيات لا تصمد في وجه واقع شرس!
في هذا الكون الشاسع مضيت أسير وحيداً في مؤخرة الركب، ولولا شعوري بأنفاسي المتلاحقة وإحساسي بنبضات قلبي لاعتقدت جازماً أنني انتمي لعالم الأشجار أكثر من انتمائي للبشر! فلم أكن في تلك الرحلة العابرة مهتماً بعالم مزدحم بالأحلام والآمال، كنت ألهث فقط للحاق بركب الحياة!
وبعد أن تدفق الزمن وسالت شعاب العمر, هطلت الأسئلة على أرضي الجدباء: هل كنت أُعجن بالوجع لأصبح كاتبا؟ أم أن الكتابة هي نتيجة حتمية لعدم المقدرة على عيش حياة طبيعية؟!
تلاطمت الأسئلة في رأسي وغرقت الإجابات وازداد الجُرح اتساعاً فلا أنا من عاش حياته كما ينبغي ولا أنا من قدم إبداعاً حقيقياً يحتفى به، هو فشل آخر ولكن من قال إنني قدمت إلى هذا العالم لأحقق النجاحات!
ملامحي التي تشبه ملامح الناس فشل، تنفسي الهواء فشل، مقدرتي على المشي فشل، أما الخيبة الكبرى التي وقعت فيها أنني تجاوزت ذلك كله إلى وجع الكتابة فعشت في عالم مواز حُذفت منه ملذات الحياة وبقيت في صراع دائم مع الذات.
وبعد فوات الأوان أدركت أن الكتابة مرض ينهش الروح فيغدو الجسد شاحباً كنبتة ذابلة وتتحول الأفكار لفراشات فقدت أجنحتها فلم تعد قادرة على الطيران. مرض الكتابة ليس كباقي الأمراض التي تصيب الإنسان فهو يُعطي النفس جانباً من الوعي بالوجود وفي الجانب الآخر يجعل منها كذبة مركبة من بعض كلمات تتلاشى على شفاه الماضي، خطر الكتابة يكمن في أنها توهم الإنسان بمقدرته على الخلود، بينما تسوقه سوقاً لمشارف الموت!
من يصاب بمرض الكتابة يكون غريباً بين أقرانه، يمضي وقته يبحث في أروقة الزمن البالية عن إجابات عقيمة، بينما يدور العالم من حوله في بهاء والحياة تتدفق في يسر وأقرانه يعانقون الغمام فرحاً وبهجة، يرتدون رداء الشباب الزاهي وتنبض قلوبهم سعادة يتقافزون في الرياض المزهرة يرسمون أحلامهم البكر على صفحة السماء.
انتهيت من كتابة أول أعمالي الروائية وكان بين أول حرف وآخر حرف مسافة ثلاث سنوات من الصراع الداخلي المتأجج، من الوجع والقلق،كنت أتساءل: أيعقل أن أكون ضحية لشخوص أنا من قام بصناعتهم!؟ شخوص تحيا على الورق وتموت بين دفتي كتاب، ولكن لم يكن الأمر كذلك!
أعدت كتابة روايتي الأولى أكثر من مرة غيَّرت مجرى الأحداث أقصيت بعض الشخصيات وأتيت بآخرين، لم أكن حينها أعلم أن العمل الإبداعي في كثير من الأحيان يفرض سطوته على الكاتب وأن شخوص العمل تختار مصائرها والأحداث تمضى دون تخطيط مسبق.
تمردت الشخصيات علي تسلّلت من تحت وسادتي تزاحمت في رأسي في حالة من الفوضى، حاولت السيطرة عليها ولكنها نفذت لداخلي لأنها وجدت كاتباً هشاً. ولكن المرعب في الأمر أنني شعرت أن لكل شخصية في العمل وعياً كاملاً بالذات!
طيلة تلك الفترة ظلت شخوص العمل تسكنني أو هكذا اعتقدت فالحقيقة المخيفة أنني كنت برفقتهم في عالمهم الخاص، حيث أردت انتزاعهم منه واستجلابهم إلى أوراقي البيضاء فعلقت هناك!
قضيت ثلاث سنوات من التأمل والمعايشة جعلتني سقيماً ذابلاً طريح الفراش وفريسة سهلة للإعياء، داهمني المرض بشده نهش روحي، فكنت أستلب من جسدي الذي أصيب بالحمى والرجفان حتى غدا كجثة هامدة فارقتها الروح، سقطت في براثن المرض فلم أعد أستطيع الوقوف في عالم هش وقعت في مستنقع الأفكار بينما أفلت أقراني.
بين جدران حجرتي هزمتني الحياة كنت وحيداً في عالم مزدحماً كحال من يشرف على الموت لا يأبه بمن حوله فهو محاط بالغياب من كل جانب!
نزف العمر وشُلت اللحظات ولم يتبق سوى فُتات الذكريات أقتات عليه، أنصت باهتمام للماضي البعيد، فحاصرتني رغبة جارفة في النجاة.
استجمعت قواي وهربت من عالم الأدب والكتابة، هربت من عالم جعل مني كائناً هشاً، وبعد عناء استطعت بكل براعة تقليد مشيه البشر، والتمثّل بأحاديثهم!
استطعت جمع شتات ذاتي المتفرِّقة في قالب جديد بعيد عن وجع الكتابة، فعادت لي عافيتي، وعدت قادراً على العيش بهناء. وكي أؤكد لذات أنني كنت مصاباً بداء الكتابة، وحتى تهدأ روحي وتستكين أخذت أبحث عن مدى تأثير الكتابة على الروح والجسد فوجدت العجب العجاب، فكثير من الأدباء والكتَّاب كادت أن تذبل أجسادهم وتهرم أرواحهم، كاد أن يجتثهم طوفان الخيال لعوالم الجنون، عايشوا لحظات الوجع والخوف والمرض، كاد أن يتجاوزهم الوجود، ويبتلعهم الزمن. فتلك الزهرة التشيلية الروائية «إيزابيل الليدي» عندما كانت تكتب روايتها «الجزيرة تحت البحر» مرضت مرضاً شديداً حتى ظنت أنها مُصابة بسرطان المعدة فكانت تتقيأ كل ما تأكله وتشعر بآلام مبرحة عند الاستلقاء لدرجة أنها في كثير من الأحيان كانت تنام وهي جالسة، وعندما عجز الأطباء عن معرفة السبب انتبه زوجها إلى أن هذه الأعراض بدأت في الظهور عندما انغمست إيزابيل في عالم الكتابة فقال لها: «كل ما هنالك أن جسدك يتفاعل مع القصة وعندما تُنهين الكِتاب ستكونين بخير». وقد حدث ما قاله الزوج بالضبط، فما إن فرغت «إيزابيل الليندي» من روايتها حتى شفيت تماماً. تقول في تلخيص تجربتها الإبداعية: «على مر السنين اكتشفت أن كل القصص التي رويتها والتي سأرويها مرتبطة بي بشكل أو بآخر، أن تستعبدك حكاية فهذا مرض».
أما الروائي الأميركي الشهير «بول أوستر» فيصف حاله مع الكتابة في حوار أجراه معه الصحفي «إنطوان جوكي» لصالح صحيفة اندبند نت، حيث يقول: «حين أكتب يتحول كياني إلى جرح مفتوح فأتلقى كل ما يحدث في الشارع، في السماء، حولي، وأضعه في الكتاب الذي أعمل عليه». ويؤكد «بول أوستر» أن الكتابة نوع من المرض نلتقطه باكراً ولا نشفى منه.
ويذكر الروائي البريطاني «جورج أورويل» في مقالة له بعنوان «لماذا أكتب» بأنه عندما كان صغيراً أدرك بأنه سيصبح كاتباً وأوعز ذلك للعزلة التي كان يعيشها ولممارسته بعض العادات والسلوكيات الكريهة التي جعلت منه شخصاً غريباً غير محتفى به بين أقرانه في المدرسة. ويقول عن الكتابة: «كتابة كتاب لهو كفاح فظيع ومنهك، كنوبة طويلة من مرض مؤلم».
ويصف الروائي الأمريكي «ترومان كابوتي» والذي اكتشف موهبته في سن الثامنة، بشكل متقن حال الكتابة: «أن تنهي الكتاب يشبه أخذ طفل إلى الحديقة الخلفية وإطلاق النار عليه».
هكذا هي حال المبدع مع الكتابة صراع دائم، شقاء وألم، حتى ينتهي به المطاف كوميض غادر الضوء ليموت على عتبة الظلام، ورغم ذلك يبقى حلمه بأن يعيش في أزمان أخرى قائماً، ويبقى وهم الخلود يراوده بين حين وآخر!
** **
- سلطان الحويطي