محمد علي علوان الأبهاوي، لا يزال أبهاويًّا حتى في لهجته التي لم تنسه ولم ينسها، على الرغم من السنوات الطوال التي أخذته عن أبهاه؛ فكلّما هاتفت «أبا غسّان»، قفزتْ إلى ذاكرتي تلك الخفّة اللذيذة التي تميّز لهجة الأبهيين عن غيرهم، سواء أكانوا من الأقربين من أبها، أم من الأباعد عنها، ولذلك دلالة مهمة كنت ألحظها في عدد من المثقفين الحقيقيين الذين لا يرون في لهجاتهم الأصيلة عيبًا يجعلهم يتصنّعون غيرها، وللعارفين بالدكتور عبدالرحمن الوابلي - رحمه الله - مثال آخر، إذ احتفظ بلهجته القصيمية الجميلة كما خلقها الله، حتى إن الذي لا يجيد اللغة الإنجليزية، ولا يفهم اللهجة القصيمية، لا يستطيع أن يفهم أحاديث الوابلي.
وعليه؛ فمحمد علوان يستعيد عسير كاتباً، ويستعيدها إنساناً، إذ بقيت لهجة الأبهيين الأوائل تخالط الريق الذي يبلعه، كلما شعر أنه في حاجة إلى لفظةٍ تزين الكلام، وتبعث الحياة في لغة الخطاب الشفاهي.
أما محمد علوان المثقف، فهو أنموذج ماثل لما استقر عليه مصطلح «الانتلجنسيا» في أذهاننا؛ ذلك أنه يمتهن الإبداع والتنوير، منذ زمنٍ كانت فيه «الوظيفة»، و»العسكرية» أقصى طموح أقرانه، ورغم ذلك بقي هذا المحمد غير آبهٍ بالأضواء التي تريده بإلحاح، فينزوي عنها بإصرار، ليأوي إلى ركن مملوء بالعمل الذهني، عله يعصمه من «النجومية» التي يدرك أنه أهل لها، لكنه يراها أقل من أن تكون هدفا.
محمد علي علوان المبدع، فإنه يستعيد قريته كلما أمسك بالقلم، يستعيدها مدفوعا بحنين جارف إلى البراءة الأولى، وإلى الحرية الفطرية، وإلى الصبايا، وأشجار السدر المغروسة في القلوب، والمسماة بأسماء البنات والأولاد، في الجهات التي تسمي القرية «الوطن»، وتسمي المزرعة «البلاد».
في أعماله القصصية، يستعيد محمد علوان قريته، استعادة تعني وجود حبل خفي بينه والأرض، برغم ابتعاد الجسد الذي نسي الروح في قرية «رجال»، وفي أحياء أبها العتيقة، وفي والده العم علي علوان - رحمه الله - الذي رأيتُ فيه أنموذج المثقّف الذي لا يعرف المجاملة، ولا يرى في الخنوع طريقًا إلى مصلحة.
هذا المحمد بن علي علوان، مولود في أبها سنة 1370، وفي بيت علم وأدب، فلوالده فضل على عسير وتاريخها وأنسابها، تحفظه الأجيال، ويفيد منه الباحثون، ما بقي الشغف بالمعرفة، وما استمر البحث، وما كتاب: «التعريف بالأنساب والتنويه بذوي الأحساب»، إلا دليل ماثل على فضل ذلك الرجل.
ولأنني مهتم بتاريخ الأدب في منطقة عسير، فقد كان محمد علوان، من أسبق كتاب القصة في عسير إلى النشر في الصحافة، وإلى طباعة مجموعة قصصية, كتب مقدمتها الأديب المصري يحيى حق، الذي لم يكن يعرف الكاتب معرفة شخصية كما يؤكد الدكتور منصور بن إبراهيم الحازمي في كتابه: «فن القصة في الأدب السعودي الحديث»، مما منح هذه المجموعة اهتمام الباحثين في القصة السعودية عبر السنوات اللاحقة، فكانت من المجموعات التي اعتمد عليها الدارسون الأوائل في القصة السعودية، واتصل الاهتمام بها في العديد من الدراسات المحلية والعربية التي تهتم بأثر المكان في الفن، إذ كان أثر البيئة العسيرية ظاهرا عند علوان في هذه المجموعة، وفي مجموعاته اللاحقة، إذ ذكر: «الجبال، والوديان، والتنور، والسويق، وشرب الشاي، ونار الفرن، وطعم العسل» (كما سردها الناقد ممدوح القديري. رحمه الله).
يقول عنه الدّكتور مسعد أحمد مسرور: «القاص محمّد علي علوان في قصصه القصيرة، ينهل من معين البيئة المحلّيّة، بيئة جنوب المملكة العربية السّعوديّة عسير وخاصة أبها والقرى المجاورة لها، واستطاع بدقّة ومهارة فائقة، من رسم تضاريس القرية الجنوبيّة وسكّانها وعاداتهم الغارقة في محلّيّتها وطقوسهم المتوارثة جيلاً بعد جيل، وتراثهم الشّعبيّ الغنيِّ الضارب جذوره في أعماق التّاريخ».
وعلى الرّغم من ذلك، لم يتنبّه الأديب يحيى حقّي في مقدّمته على مجموعة: «الخبز والصّمت»، إلى أثر البيئة المحلّيّة، حيث يقول: «ألسْنا نجدُ في هذا المجتمع الصّحراويّ كما صوّرتْه هذه المجموعة خلاصة كلّ المشكلات التي تعاني منها البلاد», فقد توهّم حقّي أنّ الكاتبَ يكتبُ مصوّراً بيئة الصّحراء, بينما هو يصوّر بيئة الجبال, وهذا الوهم كان مدار استغراب بعض أدباء عسير, يقول الكاتب أحمد عسيري: «وكم أذهلني هذا الرأي، فمحمّد علوان في مخياله السّردي متخم بالقرية، ومولع بها، وبأنفاسها، في نسيج يتماهى مع أدقّ فضاءاتها، حين يتسلّل إلى كينونتها ويستدعي طقوسها، فيتجلّى حضورها المفعم بالفرح والحزن والمكابدة العاتية في كلِّ تفاصيل خطابه السّرديّ، وبوحه المنهمر كأمطار السودة».
البيئة في عسير هي حياة جل نصوص محمد علوان القصصية: «الريف، الأسواق، المزارعون، الوادي المملوء بالأشجار، الجبال الخضراء، اللهجة العسيرية في الحوار».
أكتفي بمقطع من قصة بعنوان: «خضراء»، إذ كتب علوان: «خضراء.. خضراء.. ليست شجرة ولكنها حبيبتي.. وهكذا كانوا يسمونها.. وكنت أحس بنشوة غريبة. فها قد أصبحت بطريق غير مباشر مثل شعراء القرية الذين لا يحلو لهم سوى التغني بالأخضر.. ولا أدري أهو ارتباط بهذه الجبال الخضراء.. الرائعة التي لا تمنحهم سوى متعة النظر وإشعال النار واتخاذ السواك!»، ونظائر هذا المقطع كثيرة، بل إن الأجواء العامة للنصوص جميعها ريفية عسيرية خالصة.
محمد علوان ما يزال أخضر الروح والقلب والفن، وله الفضل على كل من أمسك بعده بقلم، ليسرد ويسرد، ويسرد، ويبدع، مستحضرا حب أسلافه الجبليين.
** **
- د. أحمد التيهاني