زعيم في محرابه له سمات مميِّزة وصفات تجعله عن غيره في علوٍّ وسعةٍ وتسامٍ، حديثه الجدُّ، وديدنه رعاية كتاب سيبويه والعناية به، له صمت وسمت يعرف له ويعرف به، فإذا كان في مجلسٍ ما التزمه، فإذا تكلَّم بزَّ المتحدِّثين وعلاهم بحديثه لا صوتاً بل دليلاً وبرهاناً، وأهبطت حجَّته حجة غيره إن كان عند غيره حجَّه.
يحدِّثك فكأنَّ حديثه حديث الغابرين سيبويه وابن السَّراج أبي عليٍّ، وتتقرَّاه فإذا فضيلته من المعاصرين، غير أنَّه فتق لسانه بمعرفة كلام أهل الرَّعيل الأوَّل أبي الحسن وأبي عمر والمازنيِّ، وعند كلامه على كلام سيبويه في كتابه فكأنَّه نسجه وكتبه مع الإمام أو نسخه له أو قرأه عليه، ولمَّا أن تفتح صفحةً أخرى من صفحات أستاذنا تجد حديثه حديث أهل اللسانيَّات مغاربيِّهم ومشرقيِّهم قد فحصه ومحصه، وأدرك ما فيه وركب مراكبه وفهم حدوده، وعرف منهم من حصد وجمع الحصيد، ومَن جمع فصنع الحصير.
إذا كتب يرسم رسماً فكأنَّ كلامه عتبات المنطق وسومه ورسومه، وعلى كلامه شارات تُعلم أنَّه أبو بجدتها في علوم العربيَّة نحواً وصرفاً وعروضاً في البناء والعرض، وبلاغة ومعانٍ في الدَّلالة والقصد، ومنطقيًّا وجدلاً في الرُّسوم والحدود في كلِّ ما يخدم ما هو فيه من حديث. وما يتكلَّم عنه هو في الصَّدر منه، وفي المتن لا الحواشي، وفي الدَّرجة العليا، ودليلي على ذلك ما صنَّفه وما كتبه سواء في البواكير أو بعد الاكتمال، فمن ذلك:
- (اعتراضات النَّحويِّين لسيبويه في شرح الكتاب للسِّيرافيِّ) هذه رسالته للحصول على (الماجستير)، وقد اقتحم هذا المقتحم، فهذا برهان على مكنته إذا نزل ميدان الكتاب مبكِّراً، وجاءت رسالته هذه منبئة عن عالمٍ فذٍّ في فقه نصِّ الكتاب، ونصُّ كتاب سيبويه هو النَّصُّ النَّحويُّ المؤسِّس الَّذي من بعده يسير وفقه وما دوَّنه فيه، وسيبويه هو إمام النَّحويِّين بلا منازع.
- يرتدف هذه الرِّسالة أطروحة أخرى هي (شرح كتاب سيبويه للرُّمَّانيِّ) وهي رسالته لنيل درجة (الدُّكتوراه)، وهي كذلك دالَّة كما سبق ذكره على اهتمامه واهتباله بكلِّ ما يخصُّ كتاب سيبويه، مع عسر لغة الرُّمَّانيِّ وجموسة لفظه وتراكيبه، وتعقيدات عبارته المنطقيَّة.
- ومن نظر في تحقيقه لكتاب (الادِّغام) من شرح السَّيرافيِّ للكتاب وجد صدق ما قلتُ قبلُ، ففي المتن مذهب المتقدِّمين، وفي الحواشي كلام المعاصرين من اللسانيِّين، وفيه نقدات كواشف لها، وتحريرات مبينة لمحتواها من قصورٍ أو براعة، ففي هذا التَّحقيق اجتمع القديم والجديد، تحقيق للقديم وتحرير للجديد.
وكفيك صدقاً وبرهاناً النَّظر في بحوثه ودراسات فضيلته وما نشره، وسأسردها سرداً، وعناوينها كواشف لها، وإليك أيُّها القارئ الفطن بعضها:
- تفسير أبنية سيبويه وغريبه للجرميِّ دراسة واستدراك.
- الزِّياديُّ النَّحويُّ.. حياته، وآثاره، وآراؤه.
- تعليقات على تعليقة أبي عليٍّ الفارسيِّ.
- القلب التَّركيبيُّ في الكتاب.. دراسة لمفهومه، ونقد سيبويه اعتباره.
- باب (أحست) دراسة لصورة من صور التَّخلُّص من اجتماع المثلين بالحذف.
- مصطلح الخروج عند الكوفيَّين.. دراسة لمدلوله، وأضربه، وعلاقته بالوظائف النَّحويَّة.
- كتاب القوافي لسيبويه.. حديث النِّسبة ودراسة المأثور.
ومن آخر ما نشره وشارك فيه ما جاء في حلقة علميَّة حلَّق بها، وهي مسجَّلة نظَّمتها وحدة البحوث في كليَّة اللغة العربيَّة بجامعة الإمام محمَّد بين سعودٍ الإسلاميَّة، وكان عنوانها (من فقه النَّصِّ اللغويِّ المؤسِّس)، وكانت حلقةً ذات مستوى رفيع من الطَّرح على ما هو معهود من فضيلته، وهي نافعة جدًّا لمن يقرأ في النُّصوص القديمة، فقد عرض فضيلته فيها ما أراده عرضاً في غاية الحسن والكمال، أدار فيها نقدات ومؤاخذات على بعض الأطاريح والرُّؤى القاصرة، وبسط فيها النَّظر والرَّأي في أعلى درجات التَّوضيح والنَّقد والبيان مع صفاء العبارة وانتقاء اللفظ المبين الصَّادق غير الجارح، بعيداً عن اهتضام حقوق الآخرين أو التَّنقص من جهودهم، وهي مرقونة بعنوانها السَّابق في (اليوتيوب).
وقد كان ممَّا ورد في هذي الحلقة من أصول النَّظر حديثه عن الفعل المضارع وإعرابه، وأنَّ بعض الأساتذة المعاصرين ممَّن يروم قراءة النَّصِّ القديم وينقده يقع عند النَّظر والنَّقد في الخلط بين أسئلة العلم، وعدم التَّمييز بينها، ومن خلط ولم يميِّز وقع في الغلط، وخرجت نتائجه ملبَّدة بالأخطاء، ومثال أسئلة العلم في رفع المضارع هي: سؤال المقدِّمة: لماذا أعرب المضارع؟، وسؤال الباب: لماذا رُفع المضارع؟، وسؤال البنية العامليَّة: بمَ رفع المضارع؟ ويذكر أستاذنا أد. سيف العريفيُّ أنَّ كثيراً من المعاصرين والباحثين المحدثين يقع منهم قصور في النَّتائج وأخطاء في التَّصوُّرات، وذلك أنَّهم أُتُوا من قِبَلِ الاستقراء النَّاقص والاطِّلاع القاصر، وكذلك الخلط بين مستويات العلم بين المستوى التَّعليميِّ وبين المستوى العلميِّ.
وقد كان لي الشَّرف السَّنيُّ إذ كان فضيلته مشرفاً لي في إعداد رسالتي لنيل درجة (الدَّكتوراه)، وكان موضوعها (جهود الأخفش الأوسط في دراسة كتاب سيبويه)، وقد أجهدني- سلَّمه الله وبارك فيه- في تعليقه على ما أسلِّمه له من ملازم وقتما كنت أكتب رسالتي، فقد كان دقيقاً جدًّا في فهم النَّصِّ واستفهام مدركه، وعدم إغفال طوارق النَّصِّ من الاحتمالات، لكنَّني- والحقَّ أقول- حمدت الله حمداً أن كان فضيلته مشرفي، فقد أفدت منه إفاداتٍ علميَّة ومنهجيَّة وقرائيَّة للنَّصِّ القديم، وهذه كافية وحسبك بها من فائدة! وزد على ذلك فوائد أدبيَّة وأسلوبيَّة، وفوائد تهذيبيَّة في تعامله وإرشاداته لي وتوجيهاته حفظه الله ونفع به.
ولعلَّي أختتم قولي بتصوير مشهدٍ لي مع فضيلته هو أنَّي لمَّا أن أدركت قاعدة كتابة المنصوب المنوَّن الزمت نفسي بكتابته وَفق ما قوي من أصله حسب ما بدا لي، ذلك أنَّ الاسم المنوَّن المنصوب المختوم بهمزة قبلها ألف ليست للتَّأنيث كـ(ماءٍ، وسماءٍ) يرسم نصباً من غير ألفٍ، وهذا رسم الكوفيِّين، والبصريُّون يرون كتابة الألف بعد الهمزة، ولا يرون منعه بحجَّة الكوفيِّين من كراهة صورة اجتماع الألفات، فأخذت بقول البصريِّين مع عدم شهرته لأنَّه الأصل، ومَن يجهل أنَّه مذهبٌ مرسوم يخطِّئه. ولمَّا أن سلَّمته ملزمةً ورد بها ذلك رَقَمَ على الكلمة علامة التَّعديل ظنًّا منه أنَّ ذلك منِّي سهو، ولمَّا أن رآه في الملزمة الأخرى التَّي جاءته بعد الأولى لم يكتفِ بالإشارة إلى التَّعديل، بل أشار بلطفٍ أنَّ ذلك يعدُّ خطأً حسب المتعارف عليه، فذكرت له أنَّ لذلك وجهاً فلم يُطل النِّقاش بل أنهى الحديث فيه، ولمَّا جاءته الملزمة الثَّالثة وإذا أنا ملتزم بهذا الرَّسم خاصصني بأن لا أترك المشهور إلى ما يستغرب خصوصاً في الرَّسائل العلميَّة، وأنت الآن تكتب رسالة علميَّة، ولم يطل به نقاشاً، لأنَّه يراه أمراً هامشيًّا وتشقيق كلام الأخفش وتنطيق دلائل تعليقات أبي الحسن أولى بالنِّقاش من رسم همزةٍ، وأنا كنتُ مستوفزاً للنِّقاش والمجادلة دون ما اخترتُه؛ فأدركت بهذا الأسلوب، وأخذه لمسألة الهمزة بهذا اللطف أنَّه لا يرغب في أنَّ رسالةً هو مشرفها أن تكتب بذلك، فعند ذلك انتدبت نفسي وعدِّلت جميع ما في الرِّسالة من ذلك وِفاق ما يراه ويرشد إليه أستاذي أد. سيف العريفيُّ، فعجبت من حسن أدب فضيلته وتعاطيه مع تلميذه، ولطفه في أخذه إلى ما يريده، مع إمكانه أن يلزمني بذلك إلزاماً؛ لذا قلتُ في نفسي إنَّني لن أخذله فعدَّلت ذلك كما أسلفتُ.
متَّع الله أستاذي البارع الجهبذ التَّعلامة سيِّد كتاب سيبويه: أ د. سيف بن عبد الرَّحمن العريفيَّ بالصَّحة والسَّلامة والعافية، وأهل النَّحو ومريدوه يتنجَّزون فضيلته فيما يجهد فيه، فعجَّل الله بذلك. أمتَّعنا الله وذويه وطلاب العلم بمهجته ومحيَّاه، ويسَّر له كلَّ عسير وسهَّله، وبارك له في عمله وعمره، وجزاه الله خيراً جزاءَ العلماء العاملين والجهابذة المخلصين. والحمد لله ربِّ العالمين.
** **
د. فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح - كلِّيَّة اللغة العربيَّة - جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة.
fhrabah@gmail.com