يُمكننا العودة ببساطة؛ ممتلكين الأداة تحوير ذكرياتنا، لنشبعها بما نُريد و بما لا نُريد! ندلفُ إليها من الأبوابِ الخلفية لما نحفظ، وكما يفعل محررو الصحف نُعدل ونحور ونصل لوجهٍ مُختلفة، نهندسُ وجودنا بالكلماتِ التي ننطق كما البنيات الشاهقة، و بالذكريات الولادة في قلوبنا... أليس يسيرًا: أغمض عينك وتذكر ثم أحس بأعمق ما تملك مهما كان الألم والغربة، أو حتى الفرحة والنسيان المعلب جدًا؛ عليك أن تنظر الآن وتتحسس الوجوه النامية في داخلك، وتلك القلوب التي تغذى على حضورك الدائم في البحثِ عنها ...
هذه الرجعة مُقنّعة للخيالِ أننا ذاتُ الأشخاص، ونتملك نفس المشاعر، ونتمسك بقشةِ الحضور الواهية جِدًا، بينما تُعمل الأدوات المسننة أثرها في صقلنا وتحولنا المديد. يأتي الهجر والبعاد مُلحًا عندما تقتربُ الذوات لبعضها حدّ التصاهر، فتعيش التضاد الأخير؛ أن تتلقى الهجوم من أكثر الأشياءِ شبهًا، وأقرب ما يمُس الذات، ويطبع أثره في النفسِ عميقًا؛ بالتأكيد هو مسيس بالأصلِ، بالطينة الأولى التي خرجت منها هذهِ البذرة التواقة لولادةٍ أخرى...لكن أولئك الذين لا يعون يمكنهم رؤية شريط تجربتهم الأخير، ليفهموا بعد فوات الأوان.
أولئك الذين يبكون بِشدة، يمكنهم التجاوز بسهولة، أن يخرجوا من أجسادهم، ويطردوا أحلام اللقاءِ بعيدًا، أن يعيشوا قرب الأشياءِ التي يبعدون عنها ملايين الأميال الضوئية وأيّاً يكن ها أنا أكتبُ وقد قارب الفجرُ على الهطول، أن يمس صدريّ بخيوطِ نورهِ المنبجس في السويداء. هناك بِذار في كل قلبٍ تحنُ لسقيا خصيصة تنمو بها وتحيا، وهكذا كما نسقى بالماءِ نسقى بالكائناتِ والأماكن، نسقى بالأشجار والأزهار، والجمادات؛ حتى تلك الصخور الصماء يمكنها أن تضم أزهارًا جميلة في كبدِ الوجود! لم يكن بكائي اللغويّ سوى نصوص هذه المكتبة العميمة.
علامَ الانتظار؟ هل كان رحيلك المعلب إلا صورةً للبقاءِ المُعشش في عقلك، ألم يكن زورقًا يتهادى في رُدهِ جسدك، في دمك الملون بلحظة الفراق؟ ليكن إذًا رحيلاً بالقبلات التي تطبع أثرها على الجراح حين تبرأ، وبالأحضانِ التي تمحو الفجواتِ التي علقت في ودادك البعيد... أتحسبُ أنك ذات الإنسان، وقد بُدلت غيره منذُ زمنٍ بعيد، حين لم تعد تعي أن زمان الأشخاص السرابي قد ولى، وما بقيّ إلا قلبك النابض فيما تُحب! فابتع لك ذاكرةً في لقاءٍ أخير يصور الاجتماع الأول في كوبِ قهوةٍ و قطعةِ حلوى وشوكلاتة، وحبيبٍ سيجدول يومك ليكون فيهِ، ثمّ ستقول أنك انتهيت...إننا ننتهي مما لا ننتهي مِنه بصمتٍ يأتي بالفراغ، أما تلك الأشياء الباقية فهي ما نتخذ لأجلها قرار الانفصال؛ هل ثمّة فراق وفي القلبِ ذاكرة؟
أتمشى في حديقةِ عينيّ، أمُسُ في حدقتيهما حنين الماءِ إلى الفناء؛ تلك اللغة المختزنة حُبًا وبهاءً مُثمرًا، و أناديني في كل ذكرى ليستقيم ليّ شتاتُ ما مضى في خُلدي، صابًا الحُب في الردهاتِ يحييها بالبقاء الجميل.
** **
- هيثم البرغش