يعزو كثير من الشعراء انصرافهم عن النساء -حتى لو كانوا أشياخا- لتقدمهن في السن، ولزوال جمالهن الذي كان يحرك فيهم ما يثيرهم، ولذا تراهم كثيري التعرض للفتيات الصغيرات وملاطفتهن ومحاورتهن، ومحاولات تغيير أشكالهم وطباعهم، والتظاهر بنشاطهم وفتوتهم بما يجلب لهم القبول عندهن، وكثيراً ما رجعوا منهن بضحكات السخرية وابتسامات الاستهزاء.
وقد وصف لنا الشاعر المصري علي الجارم -ساخراً- شيخاً يتحامل على نفسه عند لقاء الصبايا حتى يبدو في مظهر القوي النشط، مع أنه في الحقيقة واهن القوى، فلا يصلي إلا قاعداً:
لنا شيخ تولى أطيباه
يهيم بحب ربات القدود
يغازل إذ يغازل من قيام
وإن صلى يصلي من قعود
وقد بين الشاعر منصور النمري أن العلاقة تبادلية، وأنه كما تنفر المرأة من الرجل الأشيب ينصرف الرجل عن المرأة الكبيرة، فقال:
أرى شيب الرجال من الغواني
بموقع شيبهن من الرجال
ولأبي دلف أبيات طريفة يرد فيها على فتاة أرادت أن تهزأ به لأنه أشيب، فرد عليها ردا ساخرا بأن الرجال لا يعيبهم الكبر، لأنه لا تزال فيهم رغبة في النساء؛ حتى بعد كبرهم، لكن النساء إذا كبرن لم يعد للرجال فيهن مأرب، فقال:
فينا لكنَّ وإنْ شيبٌ بدا أربٌ
وليس فيكن بعد الشيب من أرب
حتى نزار قباني -الشاعر الرقيق؛ الذي لقب بشاعر المرأة- يعبر صراحة عن نفوره من المرأة الكبيرة، فمن قصيدة (إلى عجوز) يقول:
أنا لا تحركني العجائز فارجعي
لك أربعون وأي ذكرى سيئة
وسأفرد له مقال الأسبوع القادم بمشيئة الله.
وعلى العكس مما تقدم ينتصر أبو العلاء المعري للعجوز، مفضلا إياها على الكاعب:
إذا كانت لك امرأة عجوز
فلا تأخذ بها أبدا كعابا
فإن كانت أقل بهاء وجه
فأجدر أن تكون أقل عابا
وحسن الشمس في الأيام باق
وإن مجت من الكِبَر اللعابا
كما تعاطف الشاعر محمد حسن فقي، وطمأن إحداهن لما راعها الشيب، واكتشفت مقدار ما خسرته من نضارة الشباب وجماله، في قصيدة جعل عنوانها (لا تخافي) يقول في مطلعها:
بكت عينها لما رأت أن شعرها
قد ابيض واستولت عليها المخاوفُ
فقد كان كالليل البهيم تزينه
غدائر قد تاهت بهن اللفائف
إذا ما نضت عنها المطارف أبرزت
من الحسن ما تحنو عليه المطارف
وإن لبست أضفت على الحسن حلة
تضل النهي فيها وتهدي العواطف
ثم يقول الشاعر إنها بالأمس كانت تكشف زينتها طلبا للنظر، واليوم لا تجرؤ على ذلك، فالفارق كبير بين نظرات الناس لها بالأمس، ونظراتهم لها اليوم:
لقد كان هذا الحسن بالأمس عاريا
ولكنه في يومه لا يجازف
فما نظرات الأمس إلا بلاسم
وما نظرات اليوم إلا قذائف
وليزيدها طمأنينة كشف عن رأسه ليريَها شعره الذي كساه البياض منذ عشرين سنة، وما هزَّه ولا غيَّره:
كشفت لها رأسي وقلت لها ارعوي
فما هذه الأشجان إلا سفاسف
فهذا مشيبي منذ عشرين حجة
تداعبني منه الرعود القواصف
فما هزني منه الردي يوم محنتي
ولا صرفتني عن هواي الصوارف
وراح يطمئنها بأنها كالراح لا يزيدها كرُّ الأيام إلا جودة، ومثل الكتاب الذي تضيف كل صفحة مزيدا من المتعة لقارئها عما سبقتها، أما الشعرات البيض فما هي إلا قلائد حسن، ومضى في تعزيتها قائلا: إن الحسن لا يدوم، ومع ذلك فكأنه أعطاكِ عهدا ألا يفارقكِ:
ولا تجزعي ما أنت إلا سلافة
معتقة تحنو عليها الشوارف
فأنت كمثل السفر نطوي صحائفا
لتمتعنا -من بعدهن- صحائف
وما الشعرات البيض إلا قلائد
لمفرقك الداجي وإلا عوارف
وما كل حسن في الحياة بخالدٍ
ولكنَّ هذا الحسن حسنٌ مخالف
كأن البلى أعطاه عهدا بأنه
مصون فما تدنو إليه المتالف
وينظر الشاعر محمد الجلواح إلى أرملة، فيعز عليه أن يذوي شبابها احتراما لذكرى (المرحوم)، فيقول من قصيدة بعنوان (إلى أرملة):
غطتك آفاق الليا
لي والسنين المثقلةْ
والدهر لا يعطي خلو
دًا أو حياة.. مقبلة
هذي الورود الفوق خد
يك تداعت ذابلة
هذي التجاعيد التي
قد كنت منها جافلة
هذي الحياة الحلوة الأ
يام، أضحت قاتلة
هذا الندى المخضر أمسى کالفيافي القاحلة
وبعد أن يذكرها بأن العمر يجري والسنين تهرول؛ يسائلها عمن أوحى لها بضرورة أن تبقى شمعة تحترق من أجل غيرها؟ ومن قال لها إن الحب يدوم إذا ما الأرملة ظلت وفية لزوجها؟ ويذكرها بأنها أدت واجبها تجاه أبنائها فلا ضير عليها إن تداركت نفسها واعتنت بها:
والعمر يجري مسرعا
والحسن يرنو أوله
والموت يأتي زاحفا
والروح باتت خاملة
من قال كوني شمعة
تفنى بنار مشعلة
من قال إن الحب يبقى في وفاء الأرملة
وفي المقطع الأخير من القصيدة يذكرها بأن وفاة زوجها قدر لا مفر منه، ويوظف المثل المعروف (الحي أبقى من الميت) لإقناعها بالخروج من صومعتها والالتحاق بركب الحياة:
قضاء ربي نافذ
وحكمه ما أعدله!!
والناس في قبضته
وأنت (ست) عاقلة
فالحي أبقي - لو نظر
ت - من جموع راحلة
والميت المفقود - يا
محزونتي - لا عود له
ويشفق الشاعر الموريتاني محمد ولد الطالب على عانس، فيصف حالها وقد طار عنها النوم، وعصفت بها الجراح، ووقفت أمام مرآتها تتأمل شحوبها:
لم يزرها نوم ولا استقرار
فتمشت ودمعها ينهار
ومئات الجراح تعصف فيها
والليالي هزائم وانکسار
وعلى المرآة الكبيرة لاحت
مثل طيف تزفه الأسحار
وجهها شاحب التجاعيد يروي
عن أسى أربعين عاما تدار
ثم انتقل للحديث على لسانها وهي تحادث نفسها أمام المرآة، وتتذكر ما مارسته من حيل، للفت انتباه خطيب أو غريب:
يا إلهي جاء المشيب وعمري
نصفه خيبة ونصف بوار
أين وجهي الجميل؟ أين شبابي؟
هل تموت الورود والأزهار؟
أين ليني وبشرتي ونقائي
هل خبتْ في نعومتي الأقمار؟
کم نصبت الشراك في كل درب
لخطيب تسوقه الأقدار
ولبست الخمار أرجو غريبا
ذا فضول، فما أفاد الخمار
وقد يغري المال بعض الرجال لقبول المرأة الكبيرة في السن، ومن ثم يبحث عن مسوغات لقبولها، كما قال الشاعر العماني أبو نذير محمد بن شيخان السالمي على لسان أحد هؤلاء:
لا زال يعذله الكثير بحبِّها
وأراه ذا قلب لها متهافتِ
هو ناطق لكن إذا ذكروا لهُ
من وصفها ذمّاً غدا كالسَّاكت
قالوا: أترغب في عجوز لم تزل
تبكي على زمن الشباب الفائتِ
فأجابهم: إني أحاول مالَها
والحيُّ يطلب من تراث المَائِت
والعقل والتدبير فيمن سِنُّها
قد زاد عن سنّ الفتاة العانت
لا بدَّ لي منها وخلُّوا عنكمُ
عذلي فشرُّ الشيءِ قولُ الشامت
لما رأوا منهُ الإِباء دعَوا لهُ
بالنسل منها والجميل الثابتِ
ولعل هذا هو (الحريص) الذي عناه الشاعر ضمرة في جوابه للنعمان بن المنذر، حين سأله عن النساء، فعددهن له ابتداء من ذات العاشرة، وحين وصل إلى ذات الستين قال:
وصاحبة الستين لا خير عندها
وفيها ضياع و(الحريص) يريدها
** **
- سعد عبدالله الغريبي