وقفتُ وحديِ على مفتَرقِ الطرقِ
أرنو كما ينظرُ الأعشى إلى الأفقِ
وقفتُ أستنطقُ الذكرى فما لبثتْ
أن أمطرتنيِ بشلاّلٍ من الأرقِ
أقولُ كالتائهِ الحيرانَ أين أنا
أين القلوبُ التي تخلو من الحنقِ
وأين من كان بالأمس القريبِ هنا
متوّجاً بجمال الخَلْق والخُلُقِ
أين السفوحُ التي ترعى بها غنميِ
من طلعة الشمسِ حتى مغربِ الشفَقِ
أين الديار التي كانت خمائِلُها
معطراتٍ بأنسامِ الشذا العبقِ
ودّّعتها دون أن أنسى مودتَهَا
وكيف أنسى بداياتيِ ومنطَلَقيِ
كانت شياهي تساوي وزنها ذهباً
أو ضِعْفَ أضعافِهِ من عُملةِ الورَقِ
وكسرة الخبز يكفيني تناوُلهَا
بالسّمنِ حيناً وأحياناً بلا مَرَقِ
لا أبتغي ناطحاتِ السُّحب لي سكناً
أفِّ لها ولِمَا تحويهِ من شِقِقِ
الليلُ فيها نهارٌ والنهارُ بها
ليلٌ ولستُ مع البلوى بمُتَّفِقِ
مالي وللعيشِ في الضوضاءِ والصخبِ
هل ضاقتِ الأرضُ لا والله لم تَضِقِ
مالي وللمدنياتِ التي سَلبَت
مني هنائي ولم تجلبْ سوى الرَّهَقِ
مظاهر كسراب القاع تحسبُهُ
ماءً وما ثمَّ من ماءٍ لمسٍتَبقِ
بعضُ النفوسِ تخلت عن سجيتها
وبعضها لم تزل تجري على النَّسَقِ
ما كنتُ أحسبُ يوماً أن أرى القَمَرَ
مشوَّهاً بعد ما قد كان كالفلَقِ
تبارك الله من ربّ قضى أزلاً
أن السعيد سعيدٌ والشقيَّ شقِي
من لي بعيشٍ كريم حول ساقيةٍ
الماءُ فيها زلالٌ والهواءُ نَقِي
هناك تجري ينابيع الربيع كما
لو أنها عَسَلٌ من سدرةِ النبقِ
من بات فيها قرير العين مبتهجاً
فذاك حيزتْ له الدنيا على طَبَقِ
مالي وقفت بآمالي على جبلٍ
يكادُ ينهدُّ بي من شدةِ القلَقِ
مشاعري وأحاسيسيِ مشتتةٌ
كأنني مُدنَفٌ في آخرِ الرَّمقِ
تزاحمتْ حولي الأشجانُ زائرةً
كأنها ثلةٌ من جيش مُرْتَزِقِ
كأنما خِلتُ والأمواجُ عاصفةٌ
حبلَ الأسى بات ملفوفاً على عُنقِ
حتى إذا ضاقتِ الأرضُ بما رحُبتْ
وحلَّ موجُ الدجى في بُؤرة الحَدَقِ
وفجأة شعَّ من قلبي ومن نظري
نورٌ خَرَجتُ به من ظُلمةِ النفقِ
رباه مالي مجيرٌ أستجيرُ بِهِ
إلاَّك يا خالقَ الإنسانِ من عَلَقِ
لولاك ما كان لي في كُلِّ معتَرَكٍ
وقايةٌ من سِهَامِ الطيشِ والنَّزَقِ
ما أكرَمَ اللهَ معبوداً نلوذُ به
إذا أحاطتْ بنا الأخطارُ كالحِلَقِ
في ساعة الضيقِ تأتي ساعةُ الفرجِ
فكيف أخشى على نفسي من الغَرَقِ
تجاربي جعلتني يا أخا العَربِ
مثلَ الطبيب اللبيب الماهر الحذِقِ
أما تراني أقول اليومَ لي ولمنْ
يحتارُ في أيِّ أمرٍ قولة اللَّبقِ
اسعد بيومٍ جميلٍ أنتَ فيه ولا
تحفَلْ بما فات من عمر الفتى وبقِي
وكن صبوراً على البلوى إذا عَصَفتْ
فالدهر يرمي وربُّ العالمين يَقِي
مقترباً من كرام الناسِ مبتعداً
عن كلِّ متصفِ بالزيفِ والملَقِ
مهلاً فلست بمحزونٍ ولا جزِعٍ
إلا على ذكرياتي في رُبى عَثَقِ(1)
محبوبتي قريتي والحبُّ في نظري
تاجٌ على جبهتي يزدانُ بالألقِ
أبثها الشوقَ أحياناً وأكتُمُها
خوفاً على مهجتي من شِدةِ الحرَقِ
قلبي يحدثني عنها بلا مللٍ
وللقلوبِ حديثٌ غير مُخْتَلَقِ
ما زارني طيفها في كلِّ منعطَفٍ
إلا تخيلتُها في كل مفترَقِ
يا لائمي في هواها دون معرفةٍ
أني بلغت المنى بالكدِّ والعَرقِ
ليس التمني بغير السعي من شيمي
ولا الخرافات من طبعي ولا خُلُقيِ
لكنني شاعرٌ فاضت مشاعرهُ
وما لديه سوى الأقلامِ والورقِ
... ... ... ... ...
(1) اسم يطلق على القسم الأكبر من قرية الشاعر
** **
- شعر اللواء/ محمد حسن العمري