في زمن التحولات الكبيرة يحتاج المشهد الثقافي للمساءلة الجادة، وإلى وضعه على طاولة المحاكمة الدائمة، وإلى التشريح المستمر لأدبياته ومنتجه حتى يقف على رجليه باستقلالية تامة دون وصاية أو اتكالية أو وتوهّم.
هذا ما يمارسه بهدوء محمد علوان، فيما يكتب ويعمل ويحلل، فمنذ أن أصدر «الخبز والصمت» 1977 ، و»الحكاية تبدأ هكذا» 1983 ، و»دامسية» 1998 ، و»هاتف»، بالإضافة إلى مجموعة مقالات حملت عنوان «الذاكرة الوطن» 1993 ، وصولاً لإصداريه الأخيرين، وعلوان يتلمّس مواضع الألم في جسد الوطن والمواطن على حد سواء، موسعاً بنظرته الثاقبة مفهوم الإنسان ليعانق فضاءه العربي والكوني، بدءاً بقضايانا المحلية جداً، ومروراً بالقضية العربية المركزية في فلسطين، وانتهاء بأسئلته الوجودية التي تتخلّق في فضاءات واسعة.
علوان انتصر للمهمّش، وأعلا من قيمة العدم، واحتفى بالفقراء كأبطال أساسيين في قصصه، ثم أثث للأمل الذي ربما اعتقد الكثيرون أنه لا يأتي، لكنه -على خلاف ونّوس- كان محكوماً به، وكأنه يقتنص التفاصيل ليعيد بث روح الجمال من خلالها.
في مسيرة علوان الثقافية لم يكتف بتأكيده على دور المثقف في إلقاء الضوء على مناطق الضعف والحاجة، بل وجدناه يعمل بشكل شجاع وهو يخوض مناطق ذات حساسية خاصة في النسيج الاجتماعي، والحوامل الثقافية التي تشكل واقع المجتمع السعودي الفسيح، فلم يحجم عن الحديث بجرأة ذكية عن مناطق عدّها كثير من الكتاب ملغمة بالتابوات، فلم يبتعد عن نقد الحالة القبلية، أو ينآى بنفسه عن الدخول في هامش السياسة.
لهذا يتلمس القارئ في عوالم علوان ابتعاده كثيراً عن الإنشائية المباشرة، وإن كان لابد منها فإنه يقوم بتناولها بشكل رمزي في قالب فني هارباً إلى التخييل والأسطورة التي يمكن أن يخلقها النص في المتلقي.
عندما أشرف لسنوات متفرقة على الصفحات الثقافية في كل من جريدة الرياض ومجلة اليمامة، وعندما عمل في وزارة الإعلام منذ تخرجه سنة 1974 ، متدرجاً في العمل فيها إلى أن أصبح وكيلاً مساعداً لشؤون الإعلام الداخلي 2005 ، عندما اشتغل في كل هذه المحطات جعل الحرية الفكرية في إتاحة الكتب وتمرير المقالات ذات الحساسية العالية هدفاً من أهدافه الأساسية في توسيع رقعة المعرفة ومحاربة خفافيش ظلام كانوا يقفون مصدّات الوعي في وجه رغبة العشب في التوسع والتمدد لصدّ حالة التصحّر والجفاف الفكري، فخلال عقود أمضاها في العمل الإعلامي مدافعاً عن حق الكاتب في الكتابة وحق القارئ في القراءة وجدناه -هو ورفاقه- فوانيس في وجه كل ظلامي.
** **
- زكي الصدير