يختزل التراث العربي عديداً من الأمثال عن الصين ومن أشهرها (اطلب العلم ولو في الصين)، ومع شهرته فهو ليس بحديث شريف فجميع أسانيده ضعيفة. ولكن هذه المقولة تدل بلا شك عن معرفة العرب بالصين قبل الإسلام. يؤكدها تلك الصلة التجارية بين العرب والصين بواسطة طريق الحرير النشيط في العصور الوسطى، كما تتضمن المقولة الكناية عن الجد في طلب العلم مهما كانت الصعاب في سبيله.
ولكن ما يهمنا هنا فترة ما بعد ظهور الإسلام، هل قامت سفارة بين ملك الصين والنبي صلى الله عليه وسلم؟ ومتى دخل الإسلام في الصين لأول مرة؟
في العام السابع الهجري بعد فتح خيبر وظّف النبي -صلى الله عليه وسلم- الهدنة الهشة التي بينه وبين قريش وأخذ يراسل الزعماء في داخل الجزيرة العربية وخارجها ليدعوهم إلى الإسلام. وقد كشفت لنا كتب السيرة عن أسماء هؤلاء الزعماء، وأسماء الرسل حملة رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وفحواها، وكيف كان رد كل واحد منهم. ولكن تلك المصادر العربية صمتت عن أي رسالة نبوية لملك الصين.
كما نعرف أيضاً أن وفودًا كثيرة وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في العام التاسع للهجرة مقبلة على الإسلام، حتى سمي ذلك العام في كتب السيرة بـ(عام الوفود)، لكن كل تلك الوفود كانت عربية، وليس بينها وفد أجنبي واحد من خارج الجزيرة العربية.
ورغم تلك المعطيات التاريخية في تراثنا إلا أن المصادر الصينية لها كلمة أخرى، حيث تذكر روايتها أن ملك الصين، من سلالة تانغ، حينما علم بأخبار بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أرسل فريقاً لجمع معلومات ميدانية عن الدين الجديد واتباعه، بلغ حتى العراق. ثم في عهد خلفه الملك (تانغ تشي لي) - الذي تزامن حكمه مع العهد المدني للسيرة النبوية – علم أن النبي صلى الله عليه وسلم راسل الملوك الكبار ومنهم فارس والروم، ولم يرسل إليه، بادر هو بإرسال وفد صيني إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفيها قدم الوفد دعوة رسمية من ملك الصين إلى النبي صلى الله عليه وسلم لزيارة الصين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم اعتذر عن ذلك، وأوفد نيابة عنه صاحبه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ليقوم بأمر الدعوة في بلاد الصين، وأمره بتأسيس مسجد هناك. ويسمى هذا المسجد الآن (شوق النبي) في مدينة كانتون الميناء الشهير في جنوب الصين، المسمى قديماً (خانفوه)، ويقول مسلمو الصين إن هذا المسجد هو الأول في بلادهم، والذي أسسه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، كما يتضح من اللوحة المكتوبة بجواره. ويؤيده ما كتب على شاهد الضريح المزعوم لسعد رضي الله عنه القريب من ذلك المسجد.
وتكمل الرواية الصينية قائلة: إن أحد أعضاء الوفد قام برسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب على جمل، ونقلها إلى ملك الصين الذي احتفظ بها كأثر عزيز. إلا أن اضطراب الرواية الصينية وما يكتنفها من غموض يجعلنا نتوقف في الاعتماد عليها كخبر موثوق في مجملها، خاصة وهي تعارض مصادرنا الحديثية والتاريخية بخصوص قدوم ذلك الوفد الصيني إلى المدينة. ولكن في الجزء من الرواية السابقة الخاص برسمة النبي- صلى الله عليه وسلم- نجد لها ذكراً في أحد مصادرنا العربية لا يسعنا تجاهله، وذلك في نص من رحلة السيرافي التي سجلها سليمان التاجر، ونقله عنه المؤرخ المسعودي في مروج الذهب.
ويفيد النص أن (ابن وهب القرشي) وهو أحد التجار المسلمين الذي زار الصين لغرض التجارة في عام 257هـ، رأى رسمة النبي صلى الله عليه وسلم تلك في البلاط الصيني، وذلك بعد أن ألح ابن وهب في طلب مقابلة ملك الصين، بذريعة أنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له الملك بالدخول عليه، وأثناء مباحثات القرشي مع الملك بواسطة المترجم، أطلعه الملك على تلك الرسمة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب جملاً، ولم يسع القرشي - حسب رواية السيرافي - إلا أن يؤكد للملك أنها للنبي صلى الله عليه وسلم حقاً. كما أطلعه الملك على رسومات أخرى لبعض الأنبياء في هيئات متعددة (لآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى) عليهم الصلاة والسلام، مستوحاة من سيرهم. قال ابن وهب: (فرأيت صور الأنبياء فحركت شفتي بالصلاة عليهم، ثمّ رأيت صورة النبي صلى الله عليه وسلم على جمل وأصحابه محدقون به على إبلهم في أرجلهم نعال عربيّة وفي أوساطهم مساويك مشدودة). واللافت للنظر أنهم أطلعوه على رسومات زعموا أنها لأنبياء آخرين بعثوا في الصين والهند.
ولكن كيف وصلت هذه الرسومات إلى بلاط ملك الصين؟ من المحتمل أنها وصلت بواسطة المسيحيين، الذين كانوا يهتمون كثيراً برسم الأنبياء ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، لوجود أوصافهم في كتبهم المقدسة، كما ورد في قصة جبير بن مطعم رضي الله عنه حينما رأى صور الأنبياء واحداً واحداً ومنهم نبينا صلى الله عليه وسلم في أحد الأديرة في بلاد الشام. فلربما انتقلت نسخة أخرى من تلك الرسومات إلى البلاط الصيني حيث رآها ابن وهب. وذلك نتيجة لاحتكاك أهل الصين بالثقافة المسيحية بواسطة قوافل التنصير والتجارة التي كانت قائمة بينهما.
إن الرواية الصينية التي استعرضناها آنفاً، والتي صمتت عنها مصادرنا التاريخية والحديثية التي سجلت بدقة والتزام وأمانة تفاصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يستحيل جداً أن تغفل خبر هذا الوفد الذي أحسبه مهماً ولافتاً، فلو أنه حدث فعلاً فإنه حتماً سيجد طريقه للتوثيق والتدوين، ويسطره أهل الحديث والسير.
وبينما يرى العالم الصيني (لي جيان باد) أن دخول الإسلام في الصين كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم متأثراً بالرواية المفندة، نجد أن أقدم ذِكر للنبي صلى الله عليه وسلم في المصادر الصينية جاء بقلم المؤرخ الصيني (خوي تشاو) في كتابه (الرحلة إلى الدول الخمس الهندية)، الذي كتبه بعد قرن من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا موافق لتواريخ الفتح الذي امتد إلى حدود الصين الغربية على يد قتيبة بن مسلم الباهلي. ثم جاء مستشار ملك الصين (ليو إكسو)، وتحدث عن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وانتصاراته في (كتاب تانج القديم) الذي وضعه عام 945م. ويتفق هذان المصدران في امتهان النبي صلى الله عليه وسلم لرعي الإبل في أول حياته، ثم يختلقان - بعد ذلك - سيرة خيالية عن حياته صلى الله عليه وسلم، وهي جملة من الأوهام البعيدة عن الوقائع التاريخية. ولكن اللافت للنظر أن المصادر الصينية المبكرة عقدت مقارنة بين الدين الجديد (الإسلام) مع البوذية، وأن أتباعه لا يضعون في معابدهم التماثيل ولا الأصنام ولا الصور.
ولعل لمسلمي الصين العذر في اختلاق هذه الرواية وتصديقها، لأن فيها تعزيزاً لهويتهم الإسلامية، وسط بيئة مغايرة لثقافتهم وعقيدتهم. وهكذا يحدث عندما تفقد الذاكرة الشعبية بوصلة الحقيقة، تدفعها العاطفة الجياشة منفردة لاختلاق حدث افتراضي لردم فجوة ما في التاريخ، خاصة عندما يتعلق الأمر ببداية تحول عقدي مهم في المجتمع، عندها تحل الأسطورة محل الرواية المفقودة. ويعزز ذلك الحضور المعنوي الكثيف للنبي صلى الله عليه وسلم وسلالته (المزعومة) الباقية الآن في الصين، من خلال تراث مكتنز بالكثير من الأوهام والتناقضات التاريخية التي يغذيها التوجه الصوفي في تلك البلاد البعيدة.
** **
- خالد بن سليمان الخويطر