فطنَ علماءُ العربيَّةِ القدماءِ للبينيةِ بينَ العلومِ العربيَّةِ والفعلِ الديناميكيِّ الفيزيائيِّ، ورائد ذلك الخليل بن أحمد الفراهيديِّ (ت175) حيث شبه اجتماع المثلين، وأنَّه مكروه عند الصَّرفيين؛ لأنَّهم يستثقلون أن يميلوا ألسنتهم عن موضع، ثُمَّ يعيدونها إليه، لما في ذلك من الكلفة على اللِّسان، وقد شبَّه الخليل بن أحمد الفراهيديّ ذلك بمشي المقيد؛ لأنَّه يرفع رجله ويضعها في موضعها، أو قريب منه، لأنَّ القيد يمنعه عن الانبعاث، وامتداد الخطوة.
وقد ظهر هذا الملمحُ الديناميكيّ الفيزيائيّ في عددٍ من الأمثلة الصَّرفيَّة، نحو ما ذكره ابن السِّكيت نقلاً عن أبي عبيدة: «قال أبو عبيدة: العرب تقلب حروف المضاعف إلى الياء فيقولون: تطنَّيت، وإنَّما هو تظنَّنت، قالَ العَجَّاحُ:
تَقَضِّي البازي إذا البازي كَسَر الأصل (تَقَضَّضَ) فاستُثقلُ ثلاثُ ضاداتٍ فبَّدل إحداهُنَّ ياءً؛ لأنَّ القيد وهو التضعيف واجتماع ثلاثة أمثالٍ يمنعه عن الانبعاث، وامتداد الخطوة، حتَّى يتمُّ إبدال أحد الأمثال ياءً فينفك هذا القيد، وتمتد الخطوات في الكلمة، وتسير كما تسير الكلمات الأخرى.
كما أنَّ العربَ لا تبدأُ بالساكنِ ولا تقفُ على متحركٍ؛ لأنَّ الحركةَ الفيزيائيَّةَ عن فعلِها الديناميكيِّ وليس بانعدامِ الحركةِ، ولا يمكنُ أن تتوقفَ الحركةُ الفيزيائيَّةُ عن فعلِها الديناميكيِّ، وهي في حالةٍ من إصدارِ صوتِ دالٍ على الحركةِ، وعندَ توقفِ الحركةِ الفيزيائيَّةِ يحملُ الصَّوتُ صدى دلالة الوقوف عن طريقِ ذاك الصدى في الصَّوتِ.
وللتوازن الديناميكيِّ الفيزيائيِّ حضورٌ في النَّحو العربي، ويقصد بالتوازن الميكانيكيِّ الفيزيائيِّ هو: وضع النظام الفيزيائيِّ عندما لا تميل حالته الحركية، ولا طاقته الكامنة إلى التغير، يقال إن الجسم الميكانيكيَّ البسيط في حالة توازن، إذا لم تخل قوة خارجية هذا التوازن، فسيستمر في تلك الحالة إلى ما لا نهاية، ومن أمثلة هذا التَّوازنِ من أحكامِ المبتدأ أنَّه لا يجوز الابتداء بالنكرة؛ لأنَّ المبتدأَ محكومٌ عليه، ولا بدَّ أنْ يكونَ المحكومُ عليه معروفاً، والنكرةُ غير معروفة، فكيف يحكمُ على غيرِ معروفٍ، نحو: رجلٌ في البيتِ، ورجلٌ قائمٌ.
ويظهرُ التوازنُ في كونِ المبتدأ مسنداً إليه، فوجب ألَّا يكونَ مجهولاً، والأصلُ فيما يرفعُ الجهالة التَّعريف، أمَّا ترجيح تنكير الخبر على تعريفه فلأنَّ نسبته من المبتدأ نسبة الفعل من الفاعل، والفعل يلزمه التنكير..
ومن هنا تتحولُ الفرضياتُ إلى نظرياتٍ ثمَّ تتحولُ إلى قواعدَ يقاسُ عليها، كقاعدةِ الفاعلِ دائماً مرفوعٌ؛ لأنَّه صاحبُ الحديثِ أقوى الأسماءِ، ولا يقوم الفعل إلَّا به، ولا يستغنى عنه، والضمةُ أقوى الحركاتِ، والأقوى للأقوى.
وتجد المفعول به دائماً منصوباً، لأنَّه ليس صاحبَ الحديثِ بل وقوع فعل صاحب الحديث عليه، فهو أضعفُ من الفاعلِ؛ لذا يستغنى عنه، ويقومُ الفعلُ دونَهُ، والفتحةُ من أضعفِ الحركاتِ، والأضعفُ للأضعفِ.
وقد بُنيت العلوم العربيَّة على الفكر الرياضيِّ، حيثُ وُضِع علم الصَّرف أصلاً لعلم النَّحو؛ لأنَّ التَّصريف إنّما هو لمعرفةِ أنفسِ الكلمِ الثابتةِ، والنَّحو لمعرفةِ الأحولِ المتنقلةِ، واقتضت الطبيعةُ البشريةُ أن الثابت أصل للمتنقل المتغير المتحول، لذا قال ابنُ جنّيّ: «كان من الواجب على من أراد معرفة النَّحو أن يبدأ بمعرفة التَّصريفِ؛ لأنَّ معرفة ذات الشيء الثابتة ينبغي أن يكون أصلاً لمعرفة حاله المتنقلة».
ثمَّ إنَّ الكلمةَ العربيَّةَ مبنيةٌ على الميزان اللُّغويِّ الصَّرفيِّ المشابه للميزان الحسيِّ المستعمل بين البشر، وقد أشار اللُّغويون إلى هذا الميزانِ في أكثرِ من عبارة، قال أبو عثمان المازنيُّ: «فأقلّ الأصول في الأسماء عدداً الثلاثة» وذلك لكثرتها وسهولتها واعتدالها.
وقد أشار ابن عصفور إشارةً واضحةً قائلاً في التَّصريف: «لأنَّه ميزان العربيَّة، ألَّا ترى أنَّه قد يُؤخذ جزءٌ كبيرٌ من اللُّغة بالقياس، ولا يوصل إلى ذلك إلَّا من طريق التَّصريف»، وهذا الميزان مأخوذ من الأثافي الَّتي يُوضع عليها قدر الطبخ؛ فقد حددت أجزاء الكلمة يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: «الاسم لا يكون أقلّ من ثلاثة أحرف، حرف يبتدأ به، وحرف يحشى به، وحرف يوقف عليه».
وقد أظهرَ ابنُ جنَّيِّ هذا الميزان في الكلمة العربيَّة بقوله: «اعلمْ أنَّه إنمَّا يريد بقوله الأصل الفاء والعين واللَّام، والزائد ما لم يكن فاءً ولا عيناً ولا لاماً» هذا التشريحُ الدقيقُ للكلمة العربية يكشفُ دقةَ اللُّغةِ العربيَّةِ وعمقِها.
والفائدة الَّتي يحققها التوازن الديناميكيّ الفيزيائيّ في النَّحو العربيِّ هي أمنُ اللَّبسِ، والتمييز بين الكلمات، وتحقيق الوظيفة النحويَّة، وقد قامَ النَّحو العربيُّ على هذه الفوائد الَّتي مصدرها التوازن الديناميكيّ الفيزيائيِّ، يقول صدرُ الأفاضل الخوارزميُّ في باب المبتدأ والخبر: «الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة؛ لأن تنكيره يخل بالمعنى المطلوب منه، وهو الإفهامُ».
** **
- د. فهد بن سالم المغلوث