لا خلافَ أن العالمَ اليومَ يشهد عصر الثّورة الرقمية التي غيّرت وجهَ العالم، وستستمرّ في تغييره مرةً بعد مرةٍ... أحدثت هذه الثورةُ عدة اختراقاتٍ وتغييراتٍ مهمةٍ في التّكوينِ الثقافيّ العالميّ، ومنها: أنّ الثقافة باتت تخترقُ الحدودَ والدّول في ركابِ الاقتصاد، ومنها تداخلُ المصالح الاقتصادية وتشابكها بصورةٍ غير مسبوقةٍ، أحدثت تداخلاً غير مسبوقٍ للمصالح السياسيّة... حتى إن مفهومَ الدولة نفسه قد لا يكون متماسكاً في المستقبل كما نعرفه. ومنها أن المعلومات باتت تتدفقُ بصورةٍ غير معهودةٍ من قبلُ، بعد توفّر المصادر والأخبارِ والنّشر الرقمي، ومنها الاطلاعُ المباشر على الحدثِ ورؤيتِه صوتاً وصورة، ومنها التواصلُ الفكريّ بين زوايا العالم وأطراف المعمورة مما سهّل العلاقاتِ والتعارفَ بين المجتمعات والأفراد...
هذه الظواهرُ بدأت في صُنع ظاهرةٍ نفسيةٍ وثقافيةٍ، بعد عولمة الثقافة ، وهي ما يسميه بعض المفكرين (المواطن العالمي) وهو الشخص الذي يعيش في مكانٍ مّا من العالم، ولكنّه يهتم بالعالم بصفته نمطاً واحداً، فيحسُّ أنه ينتمي إليه كلّه، وله مصالح وعلاقات مع مجتمعات أخرى خارج وطنه، وتعجبه جميع الثقافات، فينتمي إليها أو يتنقل بينها، ويقبل الرؤى والفلسفاتِ المختلفة تحت غطاءٍ من الحرّية الشخصيّة والاختيار. وهذا المعنى يعيدنا إلى بعض التصورات الفلسفية المنقولة عن سقراط اليوناني (ت 399 ق م) حين قال إن العالمَ كلّه وطنه. وشُغل بهذا المعنى من الناحيةِ السياسيةِ والعلاقاتِ الدولية فلاسفةٌ أوروبيون كثيرٌ من بعده.
ولكن مع هذه العولمةِ الثقافيةِ ونموِّ الشعور النفسي بالعولمة لن تعود صورة الأوطان كما كانت، وسيكون هناك التقاءٌ بين خارج الوطن وداخله على مستوى الشّعور والانتماء. وهو الأمر الذي لن يدعَ العلاقة بين الأجيالِ الجديدة والأوطانِ على حالها... وهذا شأنٌ يقلق كثيراً من الدّول على المستوى الثقافي واللغوي والفكري، بل يمتد لدى بعض المفكرين ليصل إلى مناقشة تعريفِ المواطنِ ومفهوم العلاقة مع الآخر...
ونحن أولى بالقلقِ وأولى بالنظرِ والاعتبارِ وإيجادِ الحلول؛ فسوف تؤدي هذه الظاهرة إلى نشأة عقولٍ جديدةٍ لا تهتمّ بما تهتم به أوطانها، ولا ترسم حدوداً معرفية لنفسها ولغيرها، بل ترى العالم بلونٍ واحدٍ! ونتيجة ذلك أن قضايا وطنها الهامّة ستكون غير ذاتِ شأنٍ، وستكون منظومة مجتمعاتها الأخلاقية مختلفةً وغير واضحةٍ في ذهنها أحياناً... وممن انتبه إلى خطورة ذوبان هذه الصورة العالم السويسري هانز كونج (ت 2021 م) ودَعا أتباع الأديان إلى إعلاء شأن ما يسميه هو الأخلاق العالمية لتثبيت ما يمكن تثبيته من الأخلاق والمعاني الإنسانية والاتفاق عليها... ومعنا نحن المسلمين تتشظّى المشكلةُ لتصلَ إلى الدّين؛ إذ في الوقت الذي يقدّم فيه الإسلامُ نفسه رسالةً سماويةً عالميةً للبشر جميعاً تقوم العولمةُ الثقافيةُ العامّة بصبغِه باللون العالميّ نفسه ليصبح القرآنُ كأي كتابٍ آخر...وتصبح تعاليمه وجهة نظرٍ يقول بها بعض الناس، وهنا المشكلة القادمة.
هذا التحوّل الفكري سيكون خطيراً لأنه يذيبُ صورةَ الوطن؛ ليصبح كأي بلادٍ أخرى، ويذيبُ الفروق الثقافية على نحوٍ سلبيّ، وليس على نحو إيجابي فتختلط الشخصيات والرُّؤى، ويصبح الإخلاصُ للأوطان وجهة نظرٍ ، والعلاقةُ معها وجهة نظرٍ ، بل سيكون الدّفاع عنها وجهة نظرٍ، ومقدساتها وجهة نظرٍ عند نضوج هذه الصورة واكتمالها...
ولكن اكتمالَ هذه الصّورة يحتاج إلى دخول عدةِ دوائرَ وتفكيكِها بالضخّ الفكريِّ المتواصل عبر البرامجِ والفنونِ ووسائلِ الإعلام والكلمةِ والنشر والإنترنت... وعبر التطور والحداثة والنموّ الاقتصادي والانفتاحِ والعلاقاتِ الإنسانية... ومن أهم دوائر الهويّة اللغة الوطنيةُ ومنظومةُ القيِم لأي دولةٍ. وهي ظاهرة ما تزال تقلق دولاً عديدة كفرنسا وألمانيا وروسيا واليابان وغيرها.. إذ تسلب شبكة الإنترنت لغةَ النّشء الجديد، لتصنع معجماً خاصاً في عقل الطفل، ومع اللغة يأتي الفكر فهي وعاؤه وحاويته. ولتتأكد من ذلك انظر في معلوماتِ مراهقٍ صغير عن تاريِخنا ودينِنا وتقاليدِنا وعاداتِنا.... وقارن ذلك بحال والده... فلا شكّ أن هذا الصغيرَ يعرف عن التقنية والحاسوب والعالم أكثر مما يعرف والدُه وجدُّه.. ولكن المقارنةَ هنا هي في مسألةِ الهويةِ والانتماء... وهذا النزوح الفكري هو أحد تفسيراتِ ما تراه في العالم اليوم من موجةِ إلحادٍ ضاربةٍ ومن شتاتٍ فكري، ونزوعٍ نحو الآخر المختلف،وتقليل لأهميةِ الثوابتِ، وبدء ظاهرة الاغتراب في الوطن الذي صار قاتلاً لكثيرٍ من الشبابِ في العالم كله...
في وسط هذه الأبعادِ يبزغ في النفس سؤالٌ مهمٌ! هو:هل نحن جاهزون لهذه التحديات؟، هل منظومتُنا التعليميةُ وال ثقافية قادرةٌ على المواكبةِ العالمية والتصدّي الإيجابي، وعلى المواجهة المفيدة التي تسمح للجيل الجديد برؤية الفروق بين الألوان والتقاط المفيد من العالمِ، مع العضّ بالنواجذ على الهوية والبعد المحلي والبعد الأممي لنا بصفتنا مسلمين وعرباً؟.
هذه المعضلةٌ ليست خاصةً بنا، بل تفكّر فيها جميعُ الدول، وهذا سؤالٌ مشروعٌ جديرٌ بالنظر والاعتبار من قبل وزارتين هامّتين: وزارة الثقافة ووزارة التعليم فهما خيمة الوطن الفكرية وحراس ذاكرتِه وآمالِه وآلامِه وشخصيتِه.
** **
- د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com