إن الكم الهائل من الإعلانات الدعائية هو أحد المقاييس الأمينة لنزعة الاستهلاك، التي ألمت بالبشر في الزمن الحديث، إذ يلجأ المنتجون إلى كل وسيلة متاحة لحث البشر على زيادة الاستهلاك.
ومن خلال دراسات وتحقيقات عديدة، تبيّن أن الإعلانات التجارية تمارس دوراً كبيراً في خداع المستهلك، ودفعه للشراء والمزيد منه.
وتستند فاعلية الإعلان التجاري إلى حد بعيد على التفاوت في مستوى المعيشة الذي هو المحرك الأساس لمجتمع الاستهلاك, فالإنسان في مجتمع الاستهلاك يحس بفقره قياساً على ما يحظى به سواه.
وفي المجتمع الحديث زاد الاستهلاك بشكل لم يكن معروفاً فيما سبق، كما نجمت عنه مجموعة من القيم والقواعد التي تنظم حياة المجتمع في ضوء زيادة الاستهلاك.
يقول دافيد ريسمان: إن الفرد المتهالك على الكسب بغية زيادة قدرته على الاستهلاك، لا يجد الوقت اللازم كي يتصل بالآخرين، كي يصغي إليهم، كي يشعر معهم، كي يتبادل وإياهم.
ولذا، تنكر المجتمع الاستهلاكي الحديث لقيمة المشاركة بين الناس، إذ شغلهم بالسعي اللاهث وراء أشياء يمتلكونها ويتنافسون في التسابق إليها.
وهكذا ينشئ مجتمع الاستهلاك غربة بين الإنسان وأخيه، تنتج شعوراً بالفراغ والقلق والعنف، يقول روجيه غارودي: في مجتمعات يُحرم فيها السواد الأعظم من الناس من التمتع بالمشاركة، يصبح العنف شريعة الأفراد والجماعات، إذ يوظف مجتمع الاستهلاك زخمه في سعي لاهث إلى امتلاك الأشياء واستهلاكها، موهماً الإنسان بأن تراكم الأشياء لديه وتجددها المستمر كفيلان بأن يرويا غليل قلبه.
إذن، يفرز مجتمع الاستهلاك - كما يقول كوستي بندلي - يفرز العزلة والفراغ ويحكم على حياة الإنسان بالعبثية والتفاهة، فإذا بالمرء فقير وسط خيراته المتراكمة، جائع وسط تخمته، يستحوذ عليه السأم رغم تنوع الملاهي، يفتك به القلق، رغم كل الضمانات. ولم يخلُ مجتمع الاستهلاك من انتقادات عنيفة، مردها إلى نظرته المادية إلى الاستهلاك وعدم وجود مثل خلقية وثقافية، لتنمية الفرد وقدرته, فهذا المجتمع يجعل من الفرد أداة للاستهلاك دون أن يجعل منه إنساناً حقيقياً.
ويلاحظ أن جزءاً كبيراً من الدول تجاوزت مجتمع الاستهلاك والرخاء، ودخلت عصر مجتمعات التبذير، ولعل هذا ما دفع فانس باكارد إلى أن يعنون أحد كتبه فن التبذير. ومنذ سنوات أطلق غالبريث في كتاب مهم عهد الرخاء ، صرخة إنذار يحذر مواطنيه من عبادة الأدوات الآلية، ومن جنون الاستهلاك الحر، الذي يتحول إلى تبذير على حساب الاستثمارات.
لقد أغرق السلوك الاستهلاكي المكثف الإنسان في طوفان من المشاكل المتعلقة بتلوث البيئة واستنزاف الموارد والإسراف والتبذير وتبديد المنتجات وانتشار الجرائم والمخدرات، وشيوع المجتمع الاستهلاكي، والإعلام الاستهلاكي.
وما لم يأخذ الإنسان حذره فقد يغرقه هذا السلوك في طوفان حقيقي أكبر.
إن أكثر ما يشغل تفكير العقلية الاستهلاكية هو توفير الاحتياجات المادية، واقتناء كل ما يستجد عرضه في الأسواق، وعلى صفحات الإعلانات والدعايات التجارية في وسائل الإعلام المختلفة.
إن فيروس الاستهلاك الجائر وراء أخطر الأمراض الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والفكرية التي تعرضت لها كثير من المجتمعات.
ومن أبرز أوجه السلبيات التي تتعرض لها الأمم والحضارات، هو استشراء داء الاستهلاك الجائر في نفوس أبنائها، إذ ينمي هذا الاستهلاك في الإنسان الترهل، ويبعده عن القيم الفاضلة ففي الوقت الذي تنعم فيه بعض الشرائح الاجتماعية بكل ما لذَّ وطاب، وتقوم برمي أطنان من الأطعمة في سلات القمامة، هناك ملايين البشر تتعرض لسوء التغذية والمجاعة والموت.
إن مشاكل التلوث البيئي في هذا العصر، أحد أسبابه المهمة هو الاستهلاك الشره للموارد والمنتجات, تقول بعض الإحصاءات إن معدلات الاستهلاك العالية هي السبب الأكبر في إلحاق الأذى بالبيئة، وأن من العوامل التي تمثل نمطاً حياتياً يؤذي البيئة: السيارات، والبيوت الضخمة، ومراكز التسوق الكبرى والسلع الاستهلاكية والغذاء غير الصحي.
ولذا، فإن الاستهلاك الشره سبب رئيس من أسباب تدهور البيئة واستنزاف مواردها، ونتيجته الرئيسة، إهلاك الحرث والنسل، وتدمير التوازن البيئي, وفي الواقع، فإنه ما من سلعة إلا ابتكر منتجوها وسائل للدعاية تغري المستهلك باقتنائها حتى أصبح الإنسان الحديث ليس مجرد كائن استهلاكي بل هو أيضاً متخبط في هذا الاستهلاك، وأحياناً مخدوع فيه.