قصائدي، كتبي، تبغي، ومحبرتي
ووحدتي والرضا، لا أبتغي بدلا
أحرقت دون عباد الله أشرعتي
لا أصطفي امرأةً منهم ولا رجلا
سوى معاملةٍ بالعُرف سانحةٍ
إذا أقتضى الأمر لا تستنبت الجدلا
صمتي يدثرني عن لغو من رسفوا
في الوحل حتى أشتكى من رجسهم وجلا
من ذا أخاطبُ وغداً ملءُ جوشنه
لؤمٌ ومن خمرة الأضغان قد ثملا
فأين حلمي وقد أمضيتها حقباً
أنا السؤال وهذا الكون قد سألا
مسافرٌ في فضاء الله مغتبطٌ
للفرد أنى حللتُ السهلَ والجبلا
لم يغرني زخرف الدنيا بما حفلت
إذا أنبرى الجمع يوم الكسب واقتتلا
من كل منتهزٍ للسحت تعرفه
وجهاً تمرس بالإذلال وأبتذلا
ما أنفك منحنياً يحكي تقوسه
تقوسَ الغصنِ جدباً بعد ما ذبلا
إن قامَ في محفلٍ للقول تحسبهُ
(سحبانَ) من ضجة التصفيق و(أبن جلا)
حتى إذا قالَ ألفيت الغبارَ صدىً
من حينه يَصمُ الأسماعَ و المقلا
والمفرداتُ جلاميدٌ مدحرجةٌ
بمنحنى العي إذْ أضحى السكوت فلا
يا سيد الجُهم أنت النجم في زمنٍ
أمسى الرمادُ به في الكهف مشتعلا
هذا النص للأستاذ المبدع عبد الله السميّح من الممكن للمتأمل أن يلج إليه من المداخل التالية:
(1) الإصرار على التفرّد «وهذا أمر نلمسه؛ من خلال؛ عزيمة الشاعر على الدخول؛ في تجربة مختلفة؛ ومتميز ة؛ رفعت العادي؛ وأشياء الشاعر اليومية؛ إلى عالم لبناء نصه الشعري؛ فالقصيدة:
أ - (العنوان)؛ حيث جاء عنوان النص بهذا العنوان (ترجمة ممضّة لاشتعال الرماد) فكلمة (ممضّة) بما تشعر به من شدة الألم وجوره على الذات جعلتنا نستحضر الحالة الشعورية التي بدأ بها الشاعر نصه؛ ليكون هذا العنوان مدخلاً لتلقي النص في أفق متضمّخ بالألم؛ ومتشبع به؛ ولكنه بماذا ممتلئ؟ هنا تأتي المفارقة! ممتلئ باشتعال ما لا يشتعل عادة وهو الرماد؛ الذي هو خليفة الاشتعال؛ لكن الرماد عند أولي النفوس أصحاب العزيمة يشتعل؛ وهذا يذكِّرني بقول الشاعر الذي قال:
أرى خلل الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون لها ضرام
لكنها كانت عند ذلك الشاعر نبؤة وقتية؛ لكنها جاوزت ذلك عند السميح لتكون نبؤة النص الممتلئ عنفواناً وغلظة ليستريح إليه الشاعر وهذا ما يذكِّرني بخلود الشعراء قبله إلى عوالمهم؛ خاصة من وجدوا في الوحشة أنساً عن عالمهم الحقيقي وتمردا عليه؛ مثل الشنفرى ومن إليه؛ وإذا كان أولئك فرّوا إلى عوالمهم تصعلكاً وتوحشاً؛ فإن السميح اتخذها أنساً لعالمه الشعري وبناها في عالمه وجودا جديداً. وهذا يقودنا إلى المحور التالي:
ب - (التناص)؛ لنأخذ المقطع الأول من النص؛ الذي يقول:
قصائدي؛ كتبي؛ تبغي؛ ومحبرتي
ووحدتي والرضا لا أبتغي بدلا
أحرقت دون عباد الله أشرعتي
لا أصطفي امرأة منهم ولا رجلا
فالتبغ؛ والمحبرة؛ والكتب؛ والقصائد؛ أصبحت عالم الشاعر الشعري الذي يرتقي به من ربقة العادية؛ والهامشية لدى الآخرين؛ وفي الأفق المألوف إلى وجود جديد في عالم السميح؛ ولذلك حقّ له أن يصطفيها دون من اعتاد الآخرون على اصطفائهم من المعشوقة والصديق؛ ليكون هذا هو عالم الشاعر الذي انتدب لغته للارتقاء به وبروحه عن عالم الهامش والمكرور.
ج - (تجديد الاستعارة )؛ إذا كانت الاستعارة عند الشعراء هي جوهر الشعر وجوهره عند الشعراء؛ فإني أتجرأ وأقول: إنها عند السميح في هذا النص بالذات لها مذاق خاص؛ انظر إلى قوله مثلاً على ذلك حين يقول: (حتى إذا قال ألفيت الغبار صدىً ...إلخ النص) تجده ارتفع بالغبار أن يكون صدى وحينئذ يكون الغبار في حال وجود جديد؛ كأنه استدعاه وكونه ليكون متكأً له ومستنداً عن أن يسمع ما لا يحب؛ ومفردات الكلام؛ أضحت لديه جلاميد مدحرجة؛ فبدلاً من أن تكون مفردات الكلام طيّعة ليّنة تقضي وطره من التعبير؛ أضحت كما يراها تقف في طريقة حجارة يصعب تجاوزها.
كل ذلك ليصنع نصه في أفق العنوان الذي بدأت به مفتتح حديثي عن النص؛ وهنا أجد قلمي أصابته عدوى النص في مقتل؛ وهكذا هي النصوص العظيمة تفعل فعلها في المتلقي؛ فآن لقلمي أن يكفّ عن هذره؛ ويسكت إزاء هذا النص العظيم.
** **
- د. عالي سرحان القرشي