لم يكن اختيار التخصص قرارًا صعبًا، فقد حددته مذ زمن المرحلة المتوسطة، وتواصلتُ مع بعض أساتذته المتخصصين فيه، داخل أسوار المدرسة سؤالاً واسترشادًا واستشارة، وربما تفعل الجرأة فعلها، فأتصل بأحد علماء النحو، فأقرأ عليه عبر الهاتف ما يشكل علي، فيجيبني إجابة مشفق على حال من استعجل شيئًا قبل أوانه، وتوهم في قدرته ما لم تبلغه.
وفي يوم سألت والدي - حفظه الله- عن قوله تعالى: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} لم رفعت (غير)، فقال: إذا كان يوم الجمعة سألت صالحًا العبيكيّ!
لم تعد الغاية معرفة الإعراب، وإنما معرفة المعرب، لم أكن أعرف أبا سُليمان، وكان يعرفني حق المعرفة، ففضلاً عن تتلمذه على والدي وقت الدراسة الابتدائية، وما كان بينهما من علاقة ود بعد ذلك، فقد جمعنا الحي قُبيل سن المدرسة، مدة سنة ونصف، فكان يذكر من شقاوة الطفولة ونوادرها ما حفظه ونسيته، ولذا كان يذكِّرني بين الفينة والفينة تلك الأفعال الشقية، والحركات الماكرة، وقلما تُغفِل شخصيته اللطيفة المرحة تلك النوادر بعد أي سؤال أسأله، وقبل أي إجابة!
وفي الجامعة كنت أتردد على مكتبه، وعلى مجلس القسم الذي يجتمع فيه الأساتذة، فأسأله وأتحدث إليه، وربما مازحني إن أكثرت التردد فقال: ما أنتَ إلا قطرب ليل!
وسألته يومًا وفي المجلس جمع من الأساتذة، فبادر أحدهم بالإجابة قبل الشيخ، وقال: (في التصريح، قال الشيخ خالد، عندما تحدث ابن هشام عن..) فقاطعه آخر، وكان أكثر فطنة وأصدق حدسًا، فقال: هذا حوار بين تلميذ وشيخه، أو ابن وأبيه، أكثر من منه سؤال استفهام يا دكتور فلان!
لقد كنت أنتظر اليوم الذي يدرسني فيه، ولكن الانتظار طال أمده، فقد كان نظام الدراسة يومذاك في فرع جامعة الإمام بالقصيم نظامًا فصليًّا، تفرض فيه المواد فرضًا، ويفرض فيه من يدرسها، فلا اختيار للطالب، وكان الشيخ صالح يدرس المستويات العليا، ودرَّسنا النحو في الفصل الأول من السنة الثانية (المستوى الثالث) د. حسن هنداوي، وكان اسمًا بارزًا في القسم، بل في الجامعة، جدِّيَّةً وحزمًا، قلما أفلت من (حمل) مادته من لم يفهمها، ولكنَّا وجدنا في تدريسه ما لم يجده من قبلنا، حتى تواضع مجموعة منَّا واتفقنا على أن نطلب من رئيس القسم أن يدرسنا الفصل الذي يليه، فكان لنا ما أردنا، ولا أدري أكان ذلك إجابة لطلبنا أم إجابة لطلبه، فقد آنس من تلك الدفعة ما أبدى ابتسامته، وبسط أسارير وجهه، فرغب بالمواصلة معها فحظيت به أيَّ حظوة، واستفادت منه أيما فائدة، وأخذنا فصولاً نافعة في الإعراب وتطبيقاته، وإعراب الجمل وأشباه الجمل، واستعرضنا جملةً من كتب التراث، إضافة إلى مفردات المنهاج الأساسية، التي لا ينخرم منها شيء، فلا يضطره الوقت للاختصار، ولا صعوبة بعض المسائل للاقتصار، فقد رتب الأمر، وقسم المنهاج، وسار على خطى واضحة، فكانت طريقته درسًا، لا في العلم وحده، بل في المنهج والانضباط.
يمر الفصل تلو الفصل، والعام بعد العام، وأنا مع استفادتي ومتعتي بتدريس د. هنداوي، أنتظر شيخنا أبا سليمان العبيكي، حتى إذا لم يبق إلا فصل واحد، وكاد يفوتنا ما انتظرناه، طلب الشيخ من القسم.. وإذا طلب لا يرد له أمر، فحظينا به في الفصل الأخير، فكان مسك الختام، وشرفنا بتدريسه، وانضممنا إلى القائمة الطويلة التي درسها خلال تسعة وخمسين عامًا.
لقد تميز الشيخ صالح بتصور دقيق للنحو، واستحضار للمعلومة وشواهدها ونظائرها، وبمقدرة فذة في الإعراب، كما كان حسن التعليم، مجتهدًا لمنفعة الطالب غاية الاجتهاد، لم يكن بحاجة إلى الاستعانة بكتاب أو وسيلة إيضاح ليرتب الأفكار، أو ليتذكر المسائل، فقد ترتبت في ذهنه، واستقرت أمام عينه، ولكنه لم يكن يجاوز مسألة حتى يغلب على ظنه فهم الطلاب لها، فيقول ويكرر، ويمثل ويكثر، ثم يسأل وينتظر، وربما أدخل في أثناء ذلك طرفة تبعث الابتسامة، وتكسر الجمود.
حظيت تلك الدفعة بطريقتين مختلفتين، ومدرستين متكاملتين، وبالاختلاف تنشأ شخصيات جديدة، تقارن فتتابع أو تطور أو تخالف، أما من يقلد واحدًا لا غير، فقد جنى على شخصيته فألغاها، ترك مكانه، ولم يبلغ مكان من قلده.
وكم يعلق في ذهن المتعلم من خلق المعلم، وكم يتأثر بشيء منه، وكان أبو سليمان ذا خلق كريم، وأدب جم، ولعل من خير ذلك طهارةَ لسانه عن أن يذكر أحدًا بسوء، وعلى كثرة ما جالستُه، وعمق ما بيننا من علاقة، لم أجده يذكر أحدًا إلا ليثني عليه، فإن ذكر من لا يستحق الثناء سكت، وإن ذُكر أحد عنده بسوء أسكت، أو صرف الكلام ما استطاع، لا يقع هذا في المعاصرين له فحسب، بل لا يقبل ذكر أحد من المتقدمين بما يشين، أو يظن أنه يشين، ولو تقادم العهد، ومضت القرون، وتناقله المترجمون، وهذا خلق نادر، قلما اجتمع مع حب الطرفة الذي اتسم به، فربما جر الاستطراف والتندر إلى السخرية والاستهزاء، ولكن الله سلمه منه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
** **
أ. د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم