بريدة - خاص بـ«الجزيرة»:
حث الإسلام على التبرع، وشمل ذلك كل متبرع به سواءً كان نقدياً أم عينياً، وما زال الناس بفطرتهم في كل زمان ومكان يعدّون ذلك من مكارم الأخلاق.
ويؤكد الدكتور فهد بن عبدالرحمن اليحيى أستاذ الفقه بجامعة القصيم أن جميع الآيات والأحاديث تحث على فضل التبرع والصدقة وعظيم ثوابها شاملة بعمومها كل صدقة نقدية أو عينية، ومن ذلك ما في صحيح مسلم عن جرير رضي الله عنه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة.. فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب، ثم قال: "تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره - حتى قال - ولو بشق تمرة" قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل، كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
وقال الدكتور فهد اليحيى في حديثه لـ"الجزيرة" عن التبرع العيني في بعض جوانبه، وبسؤال مختصر: هل للوسيط بين المتبرع والمتبرع له أن يحوّل التبرع العيني إلى نقد؟!
نلاحظ أحياناً في التبرعات العينية (ملابس-أثاث-أجهزة - .. إلخ) أن الوسيط (فرداً أو مؤسسة) حين تتجمع لديه تلك التبرعات العينّية يحوّلها إلى نقد ثم يتصرّف في النقد وفق أولويات أو سياسة تلك المؤسسة في الأعمال الخيرية، وقد يتخذ التحويل إلى النقد أشكالاً عدة بحسب (نوع التبرع العيني) فمثلاً الملابس قد تباع بالطن وربما الجهة التي اشترتها قد تعيد تصنيع أو تدوير الأقمشة، وأحياناً تباع لتجار الجملة (المستعمل) وربما بثمن زهيد، كذلك الحال في الأثاث وغيره، بل من العجيب مما وقفت عليه أن أحد التجار الكبار أرسل إلى إحدى الجهات الخيرية شاحنة مليئة بأنواع من الأثاث الجديد ففوجئ بأنها باعتها وقد كان مقصودة توزيعها بهيئتها ولو أراد بيعها فهو (أشطر) منهم في البيع، ومثله آخر يفيض لديه بعض المواد الغذائية (المعلبات والزيوت وغيرها) وكان يرسلها إلى إحدى الجهات الخيرية ففوجئ أيضاً ببيعها.
الرؤية الشرعية
ويشير الدكتور اليحيى أن المتبرع بالتبرع العيني إنما تبرع بذلك - في الأصل - بنية الانتفاع من هذه العين بهيئتها، فالملابس مثلاً إنما قصد المتبرع أن يلبسها الفقير، وغرف النوم مقصده منها أن ينتفع بها كغرفة نوم، والمطبخ الذي تبرع به قصد انتفاع محتاج إلى المطبخ.. وهكذا، وإذا كان هذا هو الأصل فلا يجوز التحويل إلى نقد إلا بإذن من المتبرع ولاسيما أن كثيراً من المتبرعين لو علموا بالسعر الذي تحول إليه تبرعهم لربما لم يرضوا فمثلاً الثوب يباع على تجار جملة المستعمل بريالين أو ثلاثة ولا شك أن كثيراً من المتبرعين لا يريد ذلك فأن يأخذه من ينتفع به خير من ريالين أو ثلاثة ولست أتحدث عن التبرع ببقايا الملابس المتهالكة فهؤلاء نسبتهم أقل.
وقد يقال: إن المعروف عرفا كالمشروط لفظا فنقول: نعم، إن كان هناك عرف عام كالملابس البالية والمتهالكة وبقايا الأقمشة أو الأثاث المتهالك فهذه قد عرف الناس أنه لا يمكن الانتفاع بها على هيئتها، أما ما يمكن الانتفاع به على هيئته فمعظم الناس يظن أن الوسيط حين يأخذه فإنه سيصل به إلى المحتاج لينتفع به على هيئته، وقد اختبرت ذلك بالسؤال بنفسي لبعض الناس فوجدتهم كذلك.
وبعضهم يقول: إن كانوا سيبيعونه ويتحول المبلغ إلى ميزانية الجهة الخيرية فأنا أبيعه بنفسي أفضل لأمرين: لأني أبيعه بسعر أعلى ولأجل أن أضع المال فيمن أراه أحوج من الأقربين وإنما كنت حريصا على التبرع العيني لأني قد لا أجد المحتاج إليه بسهولة أما النقد فالمحتاجون إليه كثير، ولاسيما أن طريقة الجمع أحياناً قد تشجع ضعاف النفوس على الاستغلال كما في خبر إحدى الصحف حول (عملية ضبط عمالة تستولي على الملابس المتبرع بها لبيعها).
لهذا كله وبناء على أن قصد معظم الناس من تبرعهم العيني هو الانتفاع به على هيئته فإن الحكم الشرعي هو وجوب الالتزام بقصد المتبرع وهذا هو الأصل في باب التبرعات في الفقه كالوقف والوصية والصدقة، قال الله تعالى في الوصية: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 181]،
وفي الوقف شدد الفقهاء جداً في الالتزام بنص الواقف وقصده، وهكذا في الصدقة لا يصح العدول عن قصد المتبرع إلا في حالات خاصة بينها أهل العلم في كتبهم وفتاواهم، وقد جاء في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ - وربما قال يعطي - ما أمر به، فيعطيه كاملا موفرا، طيبة به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به - أحد المتصدقين" وهذا نص بالالتزام بما أراد المتبرع وأن ثواب الوسيط منوط بأمانته في ذلك، وبكل حال فللمتبرع حق في معرفة مصير تبرعه سواء كان من الملابس أو الأثاث أو غير ذلك.
الحلول المقترحة
ويقدم الدكتور فهد اليحيى أستاذ الفقه بجامعة القصيم مجموعة من المقترحات لمعالجة وضع التبرعات العينية، وذلك على النحو التالي:
أولاً: الشفافية مع المتبرع بإخطاره بمصير تبرعه وأخذ إذنه بذلك (مثلاً: يكتب في طلب التبرع أن الملابس أو الأثاث يتم بيعها بالجملة مثلاً أو يعاد تصنيعها).
ثانياً: إذا كانت بعض الجهات الوسيطة ترى في مثل هذا العمل أن الجمع والتوزيع مكلف فإما أن تكون واضحة صريحة كما تقدم أو تترك ذلك لمن هو مستعد له.
ثالثاً: هناك مجال مهم يتجلى في التوعية وحث الناس على التعامل الأمثل في التبرعات العينية.
وقد كنت في مجلس فأتى ذكر الملابس المستعملة والأثاث فقال أحد الحاضرين: طريقتي في الملابس التي لا حاجة لي بها: الغسيل والكي كأنها جديدة وأبحث عن محتاج لها، وفي الأثاث أرممه وأجهزه وإن احتاج إلى دهان دهنته فيفرح به من هو محتاج، والجهات الخيرية ليست رسالتها الجباية فقط بل أيضاً التوعية والتوجيه إلى وسائل التبرع الذاتية فالمقصود هو سد حاجة المحتاج فبأي سبيل سليم تحقق ذلك فهو الغاية والهدف والدال على الخير كفاعله.
رابعاً: لتكن لدينا أفكار تحقق المقصود ولا تكلف كما في المقترح التالي:
تطبيق التبرع العيني، ونحن في عصر التطبيقات الإلكترونية لذا فالمقترح تصميم تطبيق للتبرعات العينية، وهذا التطبيق يمكن أن تتولاه وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية أو الجمعيات الخيرية أو إحدى الجمعيات أو المؤسسات أو الجهات الخيرية وهذا التطبيق يمكن إيجاز وصفه وعمله كما يلي:
1 - يشبه هذا التطبيق بعض مواقع وتطبيقات بيع المستعمل كموقع أو تطبيق حراج -على سبيل المثال -ويختلف عنه فقط في البيع فهذا التطبيق المقترح خاص في التبرع وليس في البيع.
2 - يقوم المتبرع بوضع بيانات التبرع العيني مع بعض الصور له كما يفعل من يريد أن يعرض سلعته في مواقع بيع المستعمل كالأثاث أو الملابس أو الأجهزة أو غير ذلك.
3 - يقوم المحتاج باختيار حاجته بشرط أن يكون في البلد نفسه وإذا اختار هذه القطعة يسجله التطبيق ضمن من اختار هذه القطعة.
4 - بعد ذلك يسجل المحتاج الجمعية أو المؤسسة التي يريد أن تكون وسيطاً بينه وبين المتبرع ويشترط كما ذكرنا أن تكون في نفس المنطقة أو المدينة.
5 - من مقترحات الضبط (ضبط المكان وضبط الاحتياج وغير ذلك): أن يكون قبول الجهة الخيرية للشخص وفق قائمة المسجلين لديهم بمعنى أن من كان في الرياض مثلاً وقد وجد أثاثاً معروضاً للتبرع في الرياض ورغب فيه فإنه يسجل رغبته بأنه يطلب هذا الأثاث ثم يسجل الجهة الخيرية الوسيطة في الرياض، ولن يقبل طلبه إلا إذا كان مسجلاً لدى تلك الجهة الخيرية من الأسر المحتاجة ويتوافق في النطاق المكاني مع مكان المتبرع، وفي هذه الحالة تكون معلومات المحتاج وبياناته موجودة لدى الجهة الخيرية، فتقوم الجهة الخيرية بتأكيد هذا الطلب وهذا يعطي شيئا من الموثوقية بين المتبرع والمحتاج، ويقطع الطريق أمام بعض النفوس الضعيفة التي قد تستغل ذلك في غير حاجة أو سبيلا للثراء ويضبط الاحتياج الحقيقي وعدم التكرار.
6 - يكون في التطبيق خيار في نقل التبرع العيني:
الخيار الأول: بواسطة الجمعية. الخيار الثاني: بواسطة المحتاج.
وإذا كان بواسطة الجمعية فيتوقف على قبولها إذا كانت تقبل وتستطيع أو تعتذر ويكون نقل الأثاث عن طريق المحتاج مباشرةً ويتواصل مع المتبرع ويأخذ الأثاث.
ولا مانع أن يضاف في التطبيق خيار في نقل التبرع العيني أثناء وضع التبرع من المتبرع:
استعداد المتبرع نقل التبرع إلى المحتاج داخل المدينة أو خارجها فيوافق عليه أولا، وهذا موجز لفكرة التطبيق الالكتروني وهي فكرة أراها ممكنة التطبيق بإذن الله، ولاسيما بعد مزيد من الدراسة لها.